أطفال وشبان في مقتبل العمر يركضون فجر كل يوم، خلف سيارة البلدية التي تنقل القمامة إلى منطقة الطمر الصحي، كأنهم في ماراثون. ما أن تقف الشاحنة لتفريغ حمولتها من النفايات، يبدأ العراك على علبة معدنية هنا أو زجاجة بلاستيكية هناك. يبيعها الأطفال إلى متعهدين بدولار واحد للكيلوغرام. تعج منطقة الطمر، جنوب تكريت (220 كلم شمال بغداد) بأطفال وفتيان يحرصون على الوصول إليها قبل سيارات البلدية لكي يستطيعوا جمع ما يكفي من العلب، وبيعها لتأمين وجبة طعام وربما أكثر بقليل. سعد عمران (14عاماً)، يتمنى أن يعيش مثل أقرانه الذين يذهبون إلى المدرسة ويحتفلون بالأعياد، لكن وضعه مختلف تماماً: «أخرج من المنزل كل يوم في الساعة الرابعة صباحاً بالملابس ذاتها التي ارتديها في النوم لكي أصل إلى منطقة الطمر باكراً، وعند حلول المساء أذهب إلى السوق لأبيع ما جمعت إلى متعهد لقاء سعر يتراوح بين ألف وألفي دينار لكل كيلوغرام من العلب المعدنية الفارغة، ثم أشتري كيلوغراماً من الطماطم أو البطاطا وأعود بها إلى المنزل». فاطمة محمد (16عاماً) هي الأخرى بعمر الورد، أحرقت وجهها أشعة الشمس الحارقة، وتبدو منهكة: «أجبرني والدي على ترك المدرسة لكي اذهب معه برفقة أخوتي لجمع العلب المعدنية، أبقى طوال النهار، ولا يهمني شيء سوى علبة مشروب فارغة». سعد وفاطمة نموذجان من آلاف الأطفال العاملين في النفايات، كما يبدو. وتؤكد مديرة رعاية الأطفال والأمومة في محافظة صلاح الدين الدكتورة شاهة الجبوري أن «من خلال مسح ميداني أجريناه في 5 محافظات عراقية ومنها محافظة صلاح الدين، تبين أن عدد الأطفال العاملين في جمع القمامة وصل إلى 12 في المئة من مجموع عدد سكان هذه المحافظات (صلاح الدين، ذي قار، الأنبار، البصرة و نينوى)، وهذه نسبة مخيفة». وتلفت الجبوري إلى وجود كثير من المنظمات الحكومية وغير الحكومية المعنية بشؤون الأطفال والعوائل الفقيرة، «لكنها غير قادرة على رعاية هذا العدد الهائل من الأطفال والعوائل، لقلة الإمكانات المالية، مع أننا في بلد يطفو على النفط». ويؤكد أطباء مختصون أن العوائل التي تمارس هذه المهنة تتعرض لأمراض نتيجة الأدخنة المتصاعدة من حرق أكوام النفايات. ويؤكد الدكتور محمد سلطان المختص بالأمراض التنفسية والقلبية في مستشفى تكريت التعليمي ازدياد حالات الإصابة بسرطان الرئة وأمراض التنفس والربو في السنوات الأخيرة، ويوضح: «وفق دراسة أجريت في كلية الطب بجامعة تكريت، ازدادت الأمراض التنفسية بنسبة 27 في المئة عن العام الماضي نتيجة لتلوث الهواء». ويضيف سلطان: «الأطفال معرضون لهذه الأمراض أكثر من غيرهم، لأن أجسامهم لا تستطيع مقاومة المواد الضارة المنبعثة من حرق النفايات، وإصاباتهم لن تظهر بصورة مباشرة، بل في المستقبل، فالشخص بغض النظر عن عمره كلما زاد استنشاقه للأتربة والدخان الملوث ازدادت إمكانية أصابته بأحد الأمراض التي أشرت إليها». ضعف حكومي وما يدعو إلى الاستغراب هو أن العراق لا يعتبر بلداً فقيراً، غير أن الخطط الحكومية تتجاهل كما يبدو حتى الآن معالجة أوضاع الفقراء. ويؤكد المختص في التنمية الاقتصادية الدكتور بكر العزاوي أن حالات فقر مدقع منتشرة في كثير من المناطق بسبب عدم وجود خطط إستراتيجية في هذا الميدان، داعياً إلى وضع مخطط على 25 سنة مثلاً للانتهاء من المشكلة كلياً. ويرى قائم مقام مدينة تكريت عمر الشنداح أن «من الصعب في هذه المرحلة تخصيص مبالغ من الموازنة العامة للمنظمات المعنية بشؤون الأطفال والعوائل الفقيرة والمتعففة، لأن القسم الأكبر من الموازنة الحكومية تصرف لإنشاء مشاريع خدمية وبناء البنى التحتية التي دمرتها الحروب، وغالبية هذه المشاريع تنقلية بمعنى أن في كل سنة يخصص مبلغ جديد لها لاستكمالها، بسبب عدم توفر سيولة للانتهاء منها سريعاً». ويضيف الشنداح: «المئات من الأطفال يعملون في جمع القمامة في منطقة الطمر الصحي، ونحن كحكومة محلية لا نستطيع أن نمنعهم، لكن واجبنا أن نحذرهم من خطورة العمل في تلك الأماكن المليئة بالأمراض».