هي الفئة الوحيدة التي قاومت الاستقطاب وحاربت الاستحواذ وفعّلت المحاصصة على الأرض. هي الفئة الوحيدة التي حققت المعادلة التي باتت صعبة، وهي أن مصر لأهلها كلهم وليس بعضهم، وهي الفئة الوحيدة التي لا يتكلم عنها ولا إليها لا هذا الفريق ولا ذاك، ورغم ذلك فهي مع هذا وذاك روحاً وجسداً. في مليونية «نبذ العنف» الإسلامية المؤيدة للحكم، تصاعدت أدخنتهم من عشرات المداخن في أرجاء ميدان نهضة مصر، وتجولوا في دوائرهم المفرغة في كل ركن منه، وعلت زماراتهم مطنطنة عالية، وصرخت هتافاتهم الموحدة: «أي سندوتش بجنيه». وفي الوقت نفسه، ظهرت المؤثرات الصوتية والحسية نفسها في مليونية «كش ملك» المعارضة، وهو الظهور الذي بات العلامة المميزة والصفة الجامعة والسمة الغالبة لتظاهرات مصر الكثيرة جداً منذ سقط نظام وقام غيره. قام الباعة الجوالون من كل صوب وحدب، رامين خلف ظهورهم عقوداً طويلة من الخوف من أجهزة الأمن والرعب من المصادرة والعمل الخفي بعيداً من أعين الشرطة، ليبدأوا عصراً جديداً سطرته الثورة المصرية سطراً غير مقصود، أو بالأحرى سطراً أقرب ما يكون إلى العرض الجانبي. ففي حين جانب الثورة النجاح في تفعيل شعارها الثلاثي «عيش، حرية، عدالة اجتماعية»، ظن الباعة الجوالون أن ما يتعلق ب «الحرية» تم تفعيله عوضاً عن إخفاق «العيش» و «العدالة الاجتماعية». وتطور الأمر بسرعة لكن بثقة. وبالتصاعد العددي نفسه، وعلى وتيرة التخمة التظاهرية ذاتها، تحولت ظاهرة الباعة الجوالين الملازمين للمليونيات من مجرد سمة مثيرة للطرائف وصورة تستحق التعليق وشريط مصور يجذب النكات، إلى سطوة غير قابلة للنقاش. المناقشة المقتضبة مع حسن بائع الفطائر المستديرة الملازم لمليونيات التحرير منذ ما يزيد على عامين تعكس تضخماً في مفهوم الذات وتفجراً في منصوص الحقوق لدرجة المجاهرة بالتهديد: «طب خلي حد يقرب مني وأنا أوريه». لكنه وغيره الآلاف من الباعة الذين ينافسون المتظاهرين في الكثرة العددية يعلمون علم اليقين أن «أحداً» -أي الشرطة- لن يقترب منهم هذه الأيام، إلا لشراء الفطائر. فطائر حسن، و «غزل بنات» (حلوى) أحمد، و «حلبسة» (حمص الشام) طاهر، وسندوتشات كبدة فتحي، وفول وفلافل الثورة لصاحبيها «ميدو وتيتو» لم تعد حكراً على «التحرير»، الذي عرف بميدان الثورة حتى الأمس القريب ويتحول بين التظاهرة والأخرى، كما يصفه كثيرون، إلى «تواليت كبير»، بعدما يهجره الثوار الأصليون، ليتبقى ضحايا عصر مبارك من الجيلين الأول والثاني من أطفال الشوارع وأعداد غفيرة من البلطجية الهواة ومعلميهم من المحترفين وغيرهم، وهم كما انتشروا انتشاراً أفقياً في التحرير، توسعوا رأسياً في كل ميدان وشارع، لا سيما تلك المرتبطة بفعالية ثورية معارضة أو تظاهرة تأييد إسلامية أو حصار مؤسسة من المؤسسات. ولأسباب عدة، تحولت القنبلة المتفجرة التي حذر منها خبراء وتحدث عنها محللون واستغرق البحث في عواملها وتحديد توقيت انفجارها عقوداً طويلة وأموالاً مهدورة، إلى عرض مرضي يضرب الشوارع والميادين الرئيسة والفرعية في القاهرة الكبرى. أزقة منطقة «وكالة البلح» الشعبية في وسط القاهرة لفظت الآلاف من بائعي الملابس المستعملة إلى شوارع وسط القاهرة والمناطق الحيوية المتاخمة من دار القضاء العالي ومبنى مؤسسة «الأهرام» ومقر هيئة الإسعاف وغيرها. وبائعو السلع الصينية الرخيصة خرجوا من مكامنهم في العشوائيات واحتلوا مداخل ومخارج محطات مترو الأنفاق، وباعة الأسماك والفواكه وكروت شحن الهواتف المحمولة جعلوا من بوابات الوزارات والهيئات الحكومية مقراً لهم، وعلاقة «حب-كراهية» أو «حاجة-ازدراء» تجمع بينهم من جهة وعموم المصريين من جهة أخرى. رئيس نقابة الباعة الجوالين أحمد حسين يقدر عدد الباعة بنحو سبعة ملايين، بعد ما كانوا خمسة ملايين في عهد مبارك، مفسراً ذلك بتشريد كثيرين وفقدان آخرين أعمالهم. ورغم أن العدد الرسمي لهذا القطاع غير الرسمي يبقى كغيره مجهولاً، إلا أن الظهور المكثف للممثلين عن هذه الملايين الحقيقية في المليونيات الإسلامية والليبرالية المتتالية شديد الرمزية عميق المغزى. تسألهم عن مليونية المعارضة ل «استكمال الثورة»، فيؤكدون أن الثورة يجب أن تكتمل. وعن مليونية الإسلاميين في «الاحتفال بالثورة»، فيقولون: «طبعاً نحتفل، ما نحتفلش ليه؟». وتسألهم في مليونية الثوريين ل «تأبين الثوار»، فيؤكدون: «طبعاً الله يرحمهم، ناس كثيرة من عندنا ماتت كمان». وتسألهم عن مليونية «الشرعية والشريعة» فيبسملون ويقولون: «طبعاً لازم نطبق شرع ربنا». وتسألهم في شأن «مليونية العزل»، فيطالبون بضرورة العزل وتمكين الشعب. وتستقرأ رأيهم في «مليونية عودة الشرعية» فيشددون على عودة البرلمان المنحل. وتعود لتسأل عن مليونيتي «كش ملك» و «نبذ العنف» المتعارضتين، فيرددون في نفس واحد: «طبعاً يكش ملك! وطبعاً نرفض العنف». ليسوا مداهنين أو مغيبين، كما أنهم ليسوا جهلاء. هم قنبلة موقوتة انفجرت في وجوه الجميع وعلاج ما نجم عنها من جروح وشظايا أمر صعب وطريق طويل. عربة «فول وفلافل الثورة» في التحرير لم تبرح مكانها منذ عامين. وصاحب «نصبة الشاي أبو مالك» المواجهة لقصر الاتحادية وجد ليبقى. وبائع «السميط» في ميدان نهضة مصر مرابط هناك ومعه أبناء عمومته، سواء جاء الإسلاميون أو لم يأتوا. لكن ما أتي مع هذه القنبلة من الباعة هو أسلحة بيضاء وطلق خرطوش وعصي خشبية وأعمدة حديد يدافعون بها عن أنفسهم وأكل عيشهم ضد العدو، سواء كان متمثلاً في صورة متظاهرين، أو مشكلاً على هيئة شرطة، أو مموهاً في صورة مواطن طفح به الكيل من الإسلاميين والمعارضين والباعة الجوالين.