الغضب الذي اعترى طبقات مصر المتوسطة وما فوقها حين اختص الرئيس محمد مرسي غير مرة الفئات المهمشة من سائقي ال «تُك تُك» و «عفاريت الميكروباص» وشباب «التريسيكل» بالطمأنة والإجلال والتقدير خفّت حدته كثيراً بعدما تأكد لهم بالحجة والبرهان أن الجميع بات سواء في التجاهل والنسيان. فبعد خمسة أشهر بالتمام والكمال تسللت فيها مشاعر القلق وأحاسيس الغضب إلى المصريين غير المعدمين من الطبقات التي اعترتها شكوك بأن النظام الجديد سيحابي الطبقات الاقتصادية الأدنى والاجتماعية الأقل، بحكم كونها قوة عددية تضمن الغلبة في صندوق الانتخاب والنصرة في مسيرات تأييد قرارات الرئيس، استيقظ المصريون أمس على نبضات احتجاجية ووقفات تهديدية قامت بها أكثر الفئات إثارة للجدل وسط أحاسيس تقف على طرفي نقيض الكراهية والتعاطف. باعة مصر الجوالون والمقدرة أعدادهم غير رسمياً بنحو خمسة ملايين تختنق بهم شوارع مصر وحاراتها ومواصلاتها انتفضوا صباح أمس غضباً أمام مقار خمس محافظات هي القاهرة والإسكندرية والسويس وأسيوط وبورسعيد. هذه الفئة التي ترتبط وبقية المصريين بعلاقة حب - كراهية من النوع المحتدم لبّت نداء نقابتها غير الرسمية بالاحتجاج والتظاهر اعتراضاً على التهميش والتجاهل وغياب التشريعات التي تضمن معاشاً أو صحة أو معيشة كريمة. والحقيقة أن الدولة لم تقصر في الجانب التشريعي، إذ إن قراراً جمهورياً بالقانون الرقم 105 لسنة 2012 أصدره الرئيس الشهر الماضي لتغليظ العقوبات على الباعة ممن لا يحملون ترخيصاً والذين يعوقون المرور. وعلى رغم أن القرار جعل كثيرين يتنفسون الصعداء بعدما تحولت شوارع القاهرة والمدن الكبرى إلى مرتع لأولئك الباعة الذين احتل بعضهم الأرصفة ونزل ببضاعته إلى عرض الشارع بقوة التخويف، وسرق آخرون التيار الكهربائي من أعمدة الإنارة الحكومية بقوة الكماشة، إلا أن انتفاضة الباعة الجوالين ضد النظام جاءت على هوى كثيرين. وعلى رغم أن كثيرين من المصريين يعانون الأمرّين من ظاهرة الباعة الجوالين الذين باتوا ينغصون حياة المواطنين، سيراً وقيادة وأمناً وأماناً، فإن عودة المشاهد البوليسية لمطاردات الأمن للباعة ومصادرة بضائعهم ألّبت مواجع الأمس القريب حين كانت الأساليب الأمنية العقيمة هي طريقة التعامل الوحيدة مع المشكلات الاجتماعية والاقتصادية. الأزمة الاقتصادية الخانقة التي دفعت الملايين إلى الانخراط في تجارة غير رسمية باعتبارها المصدر الوحيد المتاح للرزق في ظل تفشي البطالة وتزايد معدلات الفقر وغياب الرؤية الرسمية الاقتصادية لم تكن سبباً كافياً للنظام الحالي لإدماج الباعة أنفسهم في حوار مجتمعي أو تشاور شعبي قبل إصدار قانون خاص بهم. هذه الرؤية غير المنطقية دفعت «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» إلى إعلان تضامنها مع الباعة الجوالين في احتجاجهم. ويقول مدير «وحدة العدالة الاجتماعية والاقتصادية» في «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» عمرو عادلي: «كان الأحرى بالدولة أن تشرع في تنظيم الباعة الجوالين من طريق سن تشريعات ولوائح عادلة وممثلة لمختلف المصالح المحلية، بما يكفل تحويل هذا القطاع الحيوي بما يحويه من ملايين العاملين إلى قطاع رسمي منظم». «المبادرة المصرية» أعلنت تضامنها مع مطالب الباعة الجوالين، شرط تنظيم أعمالهم بما يضمن عدم إعاقة المرور أو إشغال الطرق والميادين، ولكن في الوقت نفسه بما يفي بحقهم الدستوري في العمل واكتساب الرزق، والحق في الحياة لهم ولأسرهم. وجددت دعوتها للرئيس للوفاء بوعوده الانتخابية للقطاع غير الرسمي والشرائح الفقيرة والكادحة، وذلك بإلغاء القرار بقانون وتكليف المحافظات ووزارة التنمية المحلية بإعداد مشروع قانون بديل للباعة الجوالين بعد إشراكهم في الحوار. ومن وجهة نظر قانونية، يتطلب ذلك تعديلاً شاملاً للقانون القديم الرقم 33 لعام 1957 الخاص بالباعة الجوالين، بما يتيح تسهيل إجراءات الترخيص ويسمح بإجراء مسح لهم ولأماكن وجودهم، في شكل يقضي على الفساد والمحسوبية، مع العلم أن هناك غياباً كاملاً للشفافية أو تمثيل المصالح على المستوى المحلي في التعامل مع هذا الملف. ويفتح ملف الباعة الجوالين ملفات أخرى عدة، تبدأ بهيبة الدولة المفتقدة وتمر بالأسلوب البوليسي في التعامل المجتمعي وتنتهي بأزمة سياسية واقتصادية طاحنة تعيشها مصر في ظل غياب شبه كامل لرؤى رسمية لحلها. وكانت «المبادرة المصرية» حذرت من أن استعادة الدولة «هيبتها» لن تأتي عبر إرهاب الباعة الجوالين، وإنما بكفالة حقوق الفئات الأكثر فقراً وتهميشاً في المجتمع، لا سيما أن غالبية أولئك الباعة تعاني أصلاً ثالوث الفقر والجهل وانعدام فرص العمل في القطاع الرسمي. يُشار إلى أن الاقتصاد غير الرسمي يمثل نحو 50 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ويولد نحو 60 في المئة من الوظائف وفرص العمل، أي أن نصيب القطاع غير الرسمي يفوق القطاعين العام والخاص الرسميين، وهو ما يوجب تنظيم وتشجيع هذه الأنشطة بعد تنظيمها بدل تجريمها. أما أبناء الطبقات المتوسطة ممن شهدوا وقفات الباعة الغاضبة أمس فراودتهم مشاعر متباينة بين حنق على الباعة الذين احتلوا شوارع مصر وميادينها بقوة البلطجة، ومشاعر الزمالة رافعين شعار: «المساواة في ظلم التجاهل عدل للمواطنة».