في آخر إصداراته والذي يحمل عنواناً ساخراً: «انسوا ألمانيا: خطاب وطني»، يواصل نفيد كرماني تشريحه لفكر الوطنية الضيقة ومعه لخطاب سياسي وإعلامي، أضحى شغله الشاغل، مهاجمة المسلمين بمناسبة وبغير مناسبة. إنه يتعرض بدءاً لعملية مقتل ثمانية أجانب في ألمانيا، سبعة منهم من أصول تركية والثامن يوناني، على يد خلية يمينية متطرفة، وانكشاف تفاصيل العملية بعد سنوات من اتهام المافيا التركية بمسؤوليتها عن الجريمة. لم يفكر الإعلام الألماني ولا الأجهزة الأمنية ولو للحظة في توجيه أصابع الاتهام إلى اليمين المتطرف، في حين تكالبوا كلهم على توجيه الإتهام إلى عصابات تركية. يتحدث كرماني عن العنف اليميني ويرى أن خطورته تكمن في رفضه الخطاب السياسي وكل شكل من أشكال المحاججة، إذ كما يقول أصحابه: «هم مع العمل وليس مع الكلام»! وأعداء هذا الخطاب ليسوا دولة أو حكومة أو حزباً سياسياً ولكن ثقافة أو إثنية، ولأنه فكر لا يقبل باللعبة السياسية ويرفض منطق الكلام والذي هو منطق السياسة، فهو لا يقبل إلا بالنصر أو بالموت، ولم يكن غريباً أن يقرر أعضاء الخلية اليمينية الانتحار بعد أن افتضح أمرهم. ويفرق كرماني بوضوح بين أن يحب الإنسان وطنه وأن يتماهي مرضياً بهذا الوطن، أي حين يتحول هذا التماهي إلى موقف سياسي. إن مفهوم الدولة الأمة، والذي ظهر مع الثورتين الأميركية والفرنسية وتبنته ليبرالية القرن التاسع عشر، لم يتأسس على وحدة إثنية أو ثقافية، ولكن على توافق سياسي لجميع المواطنين، أو ما يسمى اليوم في الخطاب السياسي الألماني بالوطنية الدستورية، أي وطنية تتأسس على دستور وليس على عرق أو ثقافة أو دين أو لغة. أما الفكر القومي الذي ظهر في أوروبا في نهايات القرن التاسع عشر والذي تأسس على الإثنية والأرض واللغة، فهو الذي أفرز الكوارث التي عرفها القرن العشرين، ليس فقط في أوروبا، بل بعضها يعيشه العالم العربي حتى يومنا هذا. يعود كرماني إلى الثقافة الألمانية ليؤكد أنها كانت تفكر دائماً خارج حدود ألمانيا، ففلاسفة وشعراء القرن الثامن والتاسع عشر لم يروا في الأنوار مشروعاً ألمانياً بل رأوا فيه منذ البداية مشروعاً أوروبياً، وكانت نماذجهمالأدبية غير ألمانية، من هوميروس إلى شكسبير وبيرون، وكان فيلهلم شليغل على حق حين كتب أن «الألمان هم في الواقع كوسموبوليتيو الثقافة الأوروبية». لقد كان أغلب كتاب تلك الفترة في صراع مع النظام الألماني القائم، أي في صراع مع القومية الضيقة، وأغلبهم كان مطارداً أو منفياً. أجل، ظل هاينريش هاينه يتغنى بألمانيا وحبه لها، يكتب كرماني، لكنه كان، أكثر من ذلك، يشعر بالخجل بسببها. أما ليسينغ، فلم يسمح بتمثيل مسرحيته «نتان الحكيم» طيلة حياته. وهذا غوته يكتب أن مقارنة الشعب الألماني بالشعوب الأخرى، تتسبب له في إحساس محرج. إن نقد أو رفض ألمانيا، كان خطاً عاماً في تاريخها الأدبي. وهو نقد، يكتب كرماني، لا مثيل له في حدته ووضوحه داخل الثقافات الأخرى، كما يختلف عن الخط العام السائد اليوم في الثقافة الألمانية وإعلامها، الذي يصور الآخر دائماً كتهديد للنحن. هذا الخط السائد يصطدم في وضوح مع فكرة الوطن لدى ليسينغ، والتي ترفض ثنائية الأنا/الآخر، الغالبية والأقلية، معتبراً أن الدولة العادلة هي التي تحقق السعادة لجميع سكانها، إذ أن «كل حديث عن السعادة، في ظل وجود عدد قليل من المواطنين، يعانون داخل هذه الدولة، هو مجرد لباس للقهر». وفي رسالة إلى صديقه غلايم، كتب ليسينغ يقول إن «آخر شيء يبحث عنه، هو أن يتلقى المديح من وطني متطرف، لأن مثل هذا المديح، ينسيه أن وطنه هو العالم». * كاتب مغربي