يقارب فلاديمير نابوكوف (1899 - 1977) في روايته «العين» (ترجمة ياسر شعبان، «ميريت، القاهرة») موضوع المراقبة والاقتفاء والتقصي، إذ يتلصص راويه على حياة المحيطين به، وينقل مشاهداته على شكل يوميات تكون سجلّه الحافل بالمتعة والأسرار. نابوكوف الروسي الأصل الأميركي الجنسية، يُنهض راويه بدور الجاسوس أو العميل الذي يترصد كل حركة تقوم بها الشخصيات، ليكتبها في تقريره، ويحرص راويه على الالتزام بالواقعية، كما يقول، لأن مهمته كعين مراقبة الوقائع وتدوينها، تفرض عليه الأمانة في النقل والتصوير، كي يكون دقيقاً معتمَداً ومصدر ثقة الآخرين. تدور أحداث الرواية بعد انتهاء الحرب الروسية بأربع سنوات، إذ لم يكن قد مر وقت طويل على وفاة لينين، وكان تأثيره طاغياً، كما كانت الأمور قد استتبت، وبث الأمن السوفياتي عيونه في القارة الأوروبية كلها لملاحقة مناوئيه والعمل على التخلص منهم. يأتي السرد من منظور الراصد الخفي الذي يروي الوقائع التي يشاهدها، وينقلها إلى أوراقه وقرائه، لذلك فإنه يكون مشحوناً باللبس بين الشخصية الراوية والشخصيات المصورة المرصودة، إذ يترك لها التعبير عن نفسها، وتقديم خياراتها ومقترحاتها بشأن بعضها بعضاً، ولاسيما حول شخصية سمروف الذي يكون بؤرة الأحداث ومركز الاهتمام والرصد والتلصص. الشخصيات التي تحضر في الرواية وتقع تحت عين الراصد المتلصص، رومان بوجدانوفيتش، والتاجر الغريب الأطوار فينشتوك، والطبيبة المنتمية إلى دعاة السلام ماريانا نيكوليفنا، وهذه الشخصيات تعتبر ممثلة للمثقفين الروس، وتتبدى شخصيات طيفية، تحضر وتغيب وفق العين المتقصية. تتوافق مع المرحلة التي تعيشها، والتي كانت تحتم عليها الاختفاء والحذر في التنقل والكلام. يتحدث المتلصص المتخفي عن سمروف الذي تحاك حوله الإشاعات، وتُروى الحكايات، كل واحد يتهمه بشيء ما أو يضفي عليه تصوراً ما، بناء على قول تفوه به، أو حركه أتاها، تنعكس صورته في عقول الآخرين وتصوراتهم الغرائبية عنه، فالتاجر صاحب المتجر الذي يشتغل فيه سمروف يخمن أنه رجل خطير يعمل كعميل مزدوج لدى السلطات السوفياتية، باعتباره شارك في عدد من الحروب وقتل الكثيرين، وأنه هو بنفسه تحدث عن بعض المعارك التي خاضها، وروى كيف أنه ينجو من الموت بأعجوبة كلّ مرّة. فانيا ترى فيه مصدراً لبهجتها ومتعتها، وآخرون يرونه سفاحاً، أو ساذجاً أو مرائياً. يجهر بأنه لا يستطيع الكف عن متابعة نفسه وأنه يحسد كل الناس البسطاء الذين يستمرون في أداء وظائفهم الصغيرة بكل ثقة وتركيز. يقول إنه يتضح له شيء في غاية الأهمية وهو عبثية العالم، وأنه شعر فجأة بحرية لا يمكن تصديقها، وأن الحرية نفسها كانت إحدى علامات تلك العبثية. يتصور أن القوة الدافعة الخفية ما بعد الإنسانية لتفكيره سوف تكشف عن نفسها، لأنه كان يخمن رحيله، لكن يظهر له أنه ما يزال يرصد الأفعال ويدون الوقائع، وأن مخيلته شديدة الخصوبة لدرجة خطيرة. ويصرح أن ثمة بهجة مضطربة في التطلع إلى الماضي والتساؤل حول ما كان سيحدث لو انقلبت الظروف، مستبدلاً فرصة بأخرى، ملاحظاً كيف ينبت حدث وردي معجز فشل أن يزهر في الواقع. ويعتبر أن تاريخ البشرية بأكمله يمكن أن يفسر بوساطة العلامات الدوارة المخاتلة لدائرة الأبراج، أو بوصفه صراعاً بين بطن خاوٍ وآخر منتفخ. في كل لحظة تمر يشعر أنه على مفترق طرق، وأنه في مواجهة الخلفية المظلمة للماضي، يسرد بعض الظروف المأسوية التي عاشها سمروف حين مشى جريحاً تحت جنح الظلام إلى البحر ونام بين بعض البراميل والحقائب في الميناء، واستولى على بعض الزاد والماء، ليبحر بمفرده في قارب صيد، ويتم إنقاذه بعد أيام من إبحاره وحيداً من قبل مركب شراعي يوناني. ينقل الراوي فكرته عن أهمية عمله ككاتب لليوميات، يرى أن كاتب اليوميات يؤرخ تفاصيل حياة الناس، وأنه وإن كان مجهولاً في حياته أو تعرض للسخرية من الآخرين، فإنه يعود للظهور مستقبلاً بوصفه كاتباً مميزاً عرف كيف يخلد بقلمه تفاصيل جهلها الآخرون أو تجاهلوها. يصر على امتلاك سر رؤية شخصيته عبر عيون القرون القادمة، يفتن بحلمه لدرجة أن أي تفكير في خيبة الأمل لا يستطيع إخافته أو ثنيه عن عمله. يكشف الراصد الخفي أوراقه، يبوح بنظرته المختلفة، يجد أن الوجود ليس إلا آلاف المرايا التي تعكسه أو تعكس غيره، وأن مع كل علاقة يقيمها يزداد عدد الأشباح التي تشبهه وتتكاثر عبر الأزمنة. ويرى أنه سيأتي يوم يموت فيه آخر شخص يتذكره، وستتضاءل صورته أيضاً، ويموت داخل ذلك الشاهد الأخير للجريمة التي ارتكبها بوساطة الحقيقة المجردة للعيش. يتحلى المتلصص بجرأة التباهي بتجسسه ومراقبته للآخرين، يعترف أنه بغاية السعادة لأدائه عمله، وأنه أدرك أن السعادة الوحيدة في هذا العالم هي أن تلاحظ، تتجسس، تشاهد، تتفحص ذاتك والآخرين، أن تكون لا شيء، مجرد عين كبيرة زجاجية قليلاً، محتقنة إلى حد ما ولا ترمش. يكشف أنه يستحوذ عبر كتابة مشاهداته وتلصصه على حيوات الآخرين، يرويها كأنه يحياها. يعلن الراوي محاولة خداعه القراء وإثارة حيرتهم إزاء رصده وتقاريره، فموضوع الرواية ينحصر في عملية التحري المستمرة التي تقود البطل عبر جحيم من المرايا، وتنتهي بظهور صورتين توأمين. يكون سمروف صورة المتلصص، أو صورة الروائي، أو ربما هو نفسه يمارس التلصص على نفسه والآخرين، عبر عينه الفاحصة التي تنقل كل تفصيل، ليثبت أو ينقل أن قوى الخيال قد تنهض بدور الخير أو الشر وقد تبدد شيئاً من الانتقام المتصاعد. يشير صاحب رواية «لوليتا» عبر معالجته لطريقة السرد والرواية والكتابة، أن أي كاتب أو روائي هو عين عصره، يلاحظ ويتلصص ويدون التفاصيل ويؤرخ الوقائع، لينقل للأجيال اللاحقة صورة عصره بأمانة كاتب التقرير الأمني وحرفيته.