«البدون»، أشعر أن هذه اللفظة معبّرة بحدّ ذاتها، وتخفي خلف جرسها الموسيقي ومواد أحرفها معاني من البحث عن الذات، والمشاركة في لفظةٍ ينطق معناها الظاهري بالفقد أو العزلة، ويجب منذ الوهلة الأولى أن أذكّر القارئ العزيز بأن استخدام هذه اللفظة لا يعني الارتكاز على معاناة هذه اللفظة وتاريخها وتطبيقاتها، لكن الراصد للواقع يحاول التعامل مع مواد بحثه بنوع من التجميع والتركيب، وربما التلفيق أحياناً، سعياً لاستخراج توصيف دقيق، بحسب درجة الاندماج والتركيب بين لفظتي «البدون» و«الفكر» مثلاً، ف«البدون فكرياً» تعبيرٌ يمكن أن يصف معاناة المجتمع، أو شرائح منه تجاه حال رد فعل اللسان/ العضلات لا العقل في مواجهتهم والاختلاف معهم، ف«البدون» فكرياً: من يمتلك العقل والحق في التفكير والتعبير وإبداء الرأي لكن المخالف له بفعل سلطته المجتمعية وأيديولوجياته الخاصة، يحاول مصادرة حقه في التفكير أو التعبير، ويكتفي فقط بالسماح له بالتفكير والتعبير داخل دائرة المسموح به لدى هذه التيارات التي تفترض لنفسها الوصاية وامتلاك الحقيقة المطلقة. فنحن حين نحاول مراقبة المشهد المحلي والقضايا التي تشغله نلاحظ أن أكثرها لا يخرج عن كونه ممانعة فكرية لأي اجتهادات أو أفكار أو ربما سلوكيات تختلف عن الفكرة السائدة/ الساكنة في المجتمع، ولا يقف الموضوع عند هذا الحدّ، بل إن فكرة المدافعة الفكرية تنتقل من مجرد التعبير الحضاري عن الاختلاف مع ظاهرة سلوكية أو فكرية معينة إلى أحاديث وسلوكيات أكثر تطرفاً وتصفية لأولئك المخالفين تحت لافتات وشعارات مختلفة، فما دام هناك عقلية تفكر خارج دائرة الهوامش التي صنعناها فيجب الحذر منها، فالمجتمع «في نظر المستبد فكرياً» يجب ألا يقبل إلا المنتمين لأفكاره الحرفية ومعتقداته الخاصة ذاتها التي يقدمها له جاهزة ومعلبّة مسبقاً، وأما ما عدا ذلك، سواء كان «البدون» فكرياً من أبناء مجتمعنا، أو من خارجه، فهم خصوم فعليون أو محتملون! ولذا فإن موقف المستبد فكرياً يتشكل باتجاه تصفية الآخر المخالف، بغض النظر عن طبيعة مخالفته وجديتها. من مخرجات ظاهرة «البدون» فكرياً انشغال مجتمعنا بكثير من المقالات العابرة، أو التغريدات المخالفة، ولعل آخر الأمثلة التي أشغلت الرأي العام، والتي لا تخرج عن هذا المسار، رد الفعل تجاه الرسائل المصورة التي أطلقتها طالبة سعودية تدرس في كندا، التي توصف عبر جهات إعلامية بأنها الفتاة الأكثر جدلاً في السعودية! والحقيقة أنني لولا تصفحي لموقع إخباري لما أصبت بداء الفضول لمشاهدة رسائلها المصورة التي تخاطب بها المجتمع، وبغض النظر تماماً عن جدية ما تطرح أو صحته من خطئه، لكنّ انشغال الرأي العام بمثل هذه الجزئيات، وحجم الجدل الدائر في هذا المستوى، أمرٌ يثير الاستغراب، ويحتاج إلى دراسة وتأمل، فالفتاة تواجه رد فعل غاضب تحاول إعادته لدائرة «البدون» فكرياً. من خلال هذه المقالة يمكن أن نعالج مثل هذه الإشكالية بالحجم الذي تسمح به هذه الزاوية من جهتين: الأولى: أن رد فعل اللسان والعضلات بصفتها الوسيلة الأكثر استخداماً من التيار الممانع في مواجهة مخالفيه، أو من أسميناهم هنا «البدون فكرياً» أسهمت كثيراً في تأزيم حدة خلافاتنا وعولمتها حتى في صورها التي لا تحتمل الاختلاف والممانعة، فهذه الآلية من ردود الأفعال لا يمكن أن تخرج مجتمعاً يمتلك القناعة بذاته، ويعمل بجدية للتفكير في الاتجاه الصحيح، بل ستسهم في إشغال المجتمع وشرائحه في زوايا الأخذ والرد والجدل حول كثيرٍ من القضايا «القِشريّة» التي تحتمل الآراء المتقابلة وليس في إثارتها والانشغال بها عائدٌ حضاري ولا فائدة مرجوّة، فلولا عنفوان المواجهة لهذه الفتاة لما تحولت لأكثر السعوديات جدلاً، ونهاية الأمر أنها فتاةٌ تعبر عن ذاتها وفق رؤيتها وقناعاتها الخاصة، فلا أعتقد أنها المتسببة في مشكلاتنا الكبرى حتى تواجه كل هذا الاحتقان! ومن هنا أقول إن إعمال العقل في خلافنا مع الآخر، ومحاولة درس الشروط المنهجية والمنطقية التي يجب فرضها على خلافاتنا مع الآخرين يمكن أن تسهم في خلق فضاءٍ صحي جديد ينشغل بمشكلاته الكبرى وكليات الأمور التي كان من الأولى الانصراف لها بالعمل الجاد والمشاريع المثمرة، لا مجرد التفرغ الكامل لملاحقة فلان وتصفية الآخر، فالعصر اليوم، كما يعبر الجابري، «يقوم على الفعل العقلاني: على الضبط والتنظيم، وحساب الخطوات، وحصر التوقعات، وتقليص دائرة المصادفات والمفاجآت إلى أقصى حد». الثانية: ما زلت أعتقد أن من أهم مشكلاتنا المنهجية حين نجعل من الإسلام طرفاً في خلافاتنا مع الآخرين، فما نؤمن به ونعتقده لا يمكن أن يكون حقيقةً مطلقة حتى في جزئياته وتفاصيله، ولذا يخطئ كثيراً من يحاول تصعيد خلافه مع الآخر في فرعيات الدين والدنيا ليجعل من نفسه ممثلاً للإسلام في حراكه المعرفي حتى وإن كان هذا الآخر «البدون» فكرياً ينطلق معه من الدائرة ذاتها ويجتمع معه في الكليات! فالعقلية المحافظة، كما قلتُ في مقالة سابقة، بحاجة إلى نظرة جديدة للأشياء، وإلى تقويم مرتكزاتها الفكرية والأصولية لتعود إلى دورها، الذي من المفترض أن تقوم به في احتواء كل مسلم بدلاً من قولبته واستعدائه، وبهذا ستنتقل من دور المتباري والخصم إلى دور المحرك والمنتج. فالراصد لمجتمعنا السعودي يلاحظ جلياً أن الدين هو المرتكز الأول الذي تنطلق منه الأفكار والتيارات المختلفة، حتى أن أكثر المخالفين للتيار المحافظ تطرفاً لا يخفون رعايتهم للدين وانطلاقهم منه وبنائهم عليه، ومن هذا فإن تفصيل الدين بالمقاس الذي يناسب أفكارنا الشخصية فقط ومحاولة إخراج المخالفين لنا من هذه الدائرة يضر بالدين وحقيقته وروحه أكثر ما يحميه. * كاتب سعودي. [email protected] @magedAlgoaid