الرأي العام او السائد،كما يفضل العاملون باستطلاعات الرأي العام تسميته ، لم يعد كائنا سلبيا يستقبل إرادات وافكار النافذين بدون تفحص وتحليل لمقاصد واهداف هؤلاء الذين حملتهم صدارة مواقعهم في التعليم او الافتاء على مصادرة الوعي العام الذي تشكل بفضل اتساع دائرة مصادر المعرفة الانسانية . والمتابع لردود الافعال الشعبية التي صاحبت الفتوى المثيرة للجدل حول مفهوم الاختلاط في مواقع الصحف الالكترونية وغيرها من نوافذ الرأي ، يجد نفسه امام قراءات نقدية لهذه الفتوى تتجه اغلبها نحو رفض هذه الفتوى تماما وبحجج شرعية . وان اكبر تقدم حققه الناس في هذا العصر هو كونهم تعلموا ان يفكروا بدقة ، وليس للمدرسة مهمة اكبر من تعليم الدقة في الفكر والحذر في الحكم والمنطقية في التفكير ، وان المبدأ الاساسي لهذه القراءة يكمن في رفض مبدأ الترهيب، ونبذ ثقافة الاقصاء والابتعاد عن احادية التفكير ، والاعتماد على تنوع المناهج والمدارس في الفقه والفكر . والمقصد من هذا الكلام هو التذكير بمحاولة فهم آليات تفكير الرأي العام حول القضايا المثيرة للجدل ، خاصة واننا اصبحنا نشاهد ملامح هذا الرأي العام وتشكله ، وفي القضايا الدينية لا يمكن استبعاده عن سياقه الديني حتى لو خالف في اتجاهه رأي عالم دين ، لأن حقيقة توجهاته لم تكن مبنية على مخالفة صريحة لحقيقة الدين ، بل نابعة من فهم صحيح لمنهج الاختلاف في الرؤية للاحكام الشرعية ، ولديه قدرة عجيبة على فهم الواقع وتحديات العصر اكتسب هذه القدره من تجاربة المشتركه مع الافراد والمجتمعات للبحث عن صيغ حلول تبدد مخاوفه وتبعث روح الاطمئنان فيه ، ليتغلب على كل الامور التي تعكر صفو حياته وتهدد أمنه الفكري . وان كان لحم العلماء مسموماً ، فإن دم الانسان اكثر حرمة من لحم العالم وعظامه ، وسبحان من أوحى لنبيه عليه الصلاة والسلام بأن قلب المسلم هو مصدر الاستدلال الاولي على الحلال والحرام ، عظيم هذا الدين الذي يدعم ارادة الفرد ويضمن سلامة تفكيره واعتقاده . وقد كان الاسلام في بداياته الاولى السليمة يقوم على هذه الارادة الشعبية ، التي لم تكن تحفل بعد بتراث النقل المقيد لحركة كل رؤية تدفع المجتمع نحو استشراف آفاق المستقبل ، ان ارادة البشر لم تكن في يوم ما مطلقة ، كما انه يصعب تقييدها إلا بالشيء الذي يبعد المخاوف والتوترات عن النفس البشرية ، وهذا الشيء جوهر الايمان الضامن لقيام حياة كريمة على هذه الارض . ومهما حاول البعض التقليل من اهمية الوعي الشعبي في اصدار الاحكام على المنتجات الفكرية ، لا يستطيع ان يلغي تأثير هذا الوعي على السلوك العام الذي يعد مقياسا حقيقيا للقوة الفعلية التي تحسم امور الاختلاف ، او تتقبله كحق شرعي وانساني في هذه الحياة ، ان العالم او الخطيب اليوم لايقدم علمه لاتباع سلبيين يتلقفون كل ما يصدر عن فضيلته بدون تحليل لروح المسائل ، ولا يتفقون مع المنهج الا بمنهج ويختلفون كذلك ، ان محاكمة الرأي العام دائما لاصحاب الرأي محاكمة لاتعتمد على الانحياز والاقصاء ، بل هي دائما تتبع منهج الاختلاف الذي يقدم الرؤية الشاملة لمسائل الخلاف لتظهر النتائج وفقا لحالة الرضى المؤيدة بسلامة الفكر . وبعد هذه التجارب الطويلة مع الفتاوي وغرائبية التفكير والمنهج ، اصبح المرجعية لأكثر الناس ضمائرهم النقية التي تؤمن بأن قلب الفرد هو افضل مرجعية وبه يتم نبذ مبدأ الإقصاء والابتعاد عن الفكر الاحادي .