في كل مرة تنفرط فيها جزيئات من اللوحة اللغز، كان هناك من يسارع إلى التقاطها وإعادة ترتيبها وضمها لتستعيد اللوحة شكلها البغيض المتنافر. جماعة تكثف محاولات تمكينها من دولة عريقة قديمة نهاراً، وتؤكد ليلاً أنها لا تسعى إلى «الأخونة». وتيارات وجماعات وحركات سلفية ترعى وتبارك وتعضد داعمي التكفير ومناهضي غير الملتحين ومحاربي اليبراليين نهاراً، وتتفرغ ليلاً للتجوال على الشاشات الفضائية لتأكيد إيمانها بالحرية ودعمها للديموقراطية. ائتلافات وجبهات وأحزاب ليبرالية تمضي نهارها في اجتماعات مغلقة لإصدار بيانات منمقة وتنديدات مسبقة بكل ما يأتي من غيرها من تحركات شعبية أو جهود تدعي أنها تنموية، ثم تقضي ساعات الليل في استديوات محلية وأمام كاميرات عالمية للحديث عن مدى انخراطها مع رجل الشارع وعمق شعورها بالمرأة المطحونة وتمام إلمامها بطفل الشارع وزميله العامل وقرينه الكادح. وبين آن وآخر، كانت تخرج كلمة غير محسوبة هنا عن فوقية «الإخوان» مقارنة بمن هم غير «إخوان»، فينبري من يكذب ويسارع من يهدئ، أو يأتي أحدهم بعملية تجميلية لأنف متضخم أو ينفرد بإحداهن على طريق متفرع ضارباً عرض الحائط بما تمثله لحيته من مبادئ حاكمة ويرمز له جلبابه من قواعد صارمة، فيظهر من يدافع بالهجوم على أعداء الإسلاميين المحاولين تشويه سمعتهم وإضاعة هيبتهم، فتخرس الألسنة وتتقوقع الأدمغة، أو تتضارب تصريحات ليبرالية ثورية بين رغبة في إسقاط النظام أو تأكيد على تعديل الدستور أو تفعيل لقانون مغدور، ويواجهون اتهامات التشرذم وتعليقات التحلل بمؤتمر صحافي مهيب أو اجتماع ثوري رهيب لنفي الاتهامات وإعادة الجزيئات إلى اللوحة المتنافرة أصلاً. ويوم أمس انفرطت اللوحة انفراطاً غير مسبوق. فكل يغني على ليلاه، وليلى غير عابئة بالجميع. «بنت النيل» المرابطة أمام قصر الاتحادية منذ ما يقرب من شهر ونصف الشهر لن تبارح مكانها إلا بإسقاط الرئيس محمد مرسي لأنه بدلاً من أن يخفف عن المصريين أعباءهم ويداوي جروحهم أضاف إليها قدراً غير قليل «والشعب خلاص تعب جداً». عمرو المراقب الجوي المرابط إلى جوار البوابة الرئيسة لنادي «هليوبوليس» في محيط القصر حوّل سيارته ال «بيتلز» التي انتهى عمرها الافتراضي منذ ما يزيد على ثلاثة عقود إلى أحد معالم الاعتصام عبر معرض شبه متنقل (نظراً إلى تعطل السيارة الدائم) لعرض وجهة نظره في إسقاط كل من يتاجر بالدين أو يضحك على البسطاء ببطاقة الجنة، مترحماً على الرئيسين الراحلين جمال عبدالناصر وأنور السادات. صور السادات عرفت طريقها إلى واجهة «كوفي شوب أبو مالك» وهي عبارة عن جزء من سياج حديدي معضد ببقايا حائط خرساني ومزود بأكواب بلاستيكية وعبوات شاي ونسكافيه وإلى جوارها قدر من أرغفة الخبز وعلب جبن كتب عليها «نستو يا معفنين». صاحبها يعرف نفسه بأنه «ثوري كل الوقت صاحب كوفي شوب نصف الوقت». فهو مرابط عند «الاتحادية» إلى حين إسقاط «الإخوان» الذين يصفهم بأنهم «خراب مصر». لكن يبدو أن مسؤولية «خراب مصر» تتنازعها جهات عدة. فال «دم بدم ورصاص برصاص» المرسومة على جدران الاتحادية يتداولها محبو الجماعة ومريدوها باعتبارها دليل إدانة ل «جبهة الإنقاذ الوطني» المعارضة الملقبة «إخوانياً» ب «جبهة خراب مصر». صحيح أن حضور الجماعة ومحبيها لم يكن ظاهراً بالعين المجردة في «جمعة الخلاص»، لكنه كان محسوساً في كل مكان. ناطقون باسمها صالوا وجالوا على الفضائيات يتحدثون عن المليون شجرة الجاري زرعها والألف مدرسة المستمر تجديدها وآلاف المواطنين الجاري علاجهم، هذا غير أذرع الجماعة المفتوحة وأياديها الممدودة للجميع من أجل الحوار. وعلى أرض الواقع، تقف الجماعة وأذرعتها مخلية مسؤوليتها أو التزامها بما يجري في جلسات الحوار أو وثائق الإصلاح أو لقاءات التقريب لأنها لم تتم من خلال الصندوق، أما حكومة هشام قنديل التي كان فشلها ضمن أسباب التقارب السلفي - الليبرالي ممثلاً في مبادرة حزب «النور»، فهي تلقى «كل الدعم» من قبل الجماعة. انفراط جزيئات اللوحة تجسد واضحاً في أسئلة بريئة طرحها مشاركون في عشرات المسيرات. فإذا كانت معارضة «الإخوان» ومناهضة «أخونة» مصر جمعت كثيرين في «جمعة الخلاص»، فإن كثيرين أيضاً تساءلوا عن الغاية من نزولهم: هل هو لإسقاط النظام؟ أم لرحيل مرسي؟ أم لتعديل الدستور؟ أم لإقالة الحكومة؟ أم لاستمرار الثورة؟ أم ماذا؟ «ماذا» بقيت مطروحة طوال اليوم. «ماذا سيحدث إن هجم الإخوان علينا مجدداً؟»، سؤال طرحته سيدة في منتصف العمر على صديقتها وهما محتميتان من الأمطار تحت مظلة كتب عليها: «يسقط حكم المرشد»، فردت صديقتها مشجعة: «العمر واحد والرب واحد. نحن لا نريد سوى الخلاص لمصر».