أسس النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) النظام القضائي الإسلامي، وكان قاضي المسلمين الأول، كما وضع الأساس لهذه السلطة حين قال: «البينة على من ادعى، واليمين على المدعى عليه»، وعلى درب النبي الكريم، سار الخلفاء الراشدون الذين اتجهوا إلى تعيين القضاة في ظل اتساع الدولة الإسلامية، وزيادة رقعتها وتضخم مهمات الخلفاء. وعمد القضاة في عصر الراشدين إلى الاجتهاد في ما لم يرد فيه نص من القرآن أو السنّة. وفي العصر الأموي ومع اتساع حركة الفتوح عمد القضاة إلى تسجيل أحكامهم في سجلات. وكان قاضي مصر سليم بن عتر التجيبي أول من سنّ هذه السنّة في عصر الخليفة معاوية ابن أبي سفيان، وبلغ القضاء درجة عالية من الرقي في عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز الذي طلب من القضاة عدم تطبيق عقوبة القتل على أي مذنب قبل عرض الأمر عليه، حرصاً على عدم سفك دم الرعية بالباطل فيحاسب عنه أمام الله، كما نهى القضاة عن عقوبة التمثيل بالجسد بعد القتل فقال: «إياكم والمثلة في العقوبة وجر الرأس واللحية». وحين قامت دولة بني العباس، حرص الخلفاء على تنظيم أمور القضاء، بل وجلسوا بأنفسهم لنظر المظالم في ما يشبه محاكم الاستئناف في عصرنا. ومن أشهر من نهج هذا السلوك، الخليفة المهدي العباسي (158 - 169ه)، كما تبلورت المذاهب الفقهية الأربعة في عصره في شكل واضح، ومن ثم بدأ قضاة المذاهب في الظهور. ومع ضعف الخلافة العباسية في بغداد وخضوعها لعدد من القوى المتغلبة حدث نوع من التطوير في القضاء، وهو ما يدور حوله مقالنا هذا عن كتاب «القضاء في بغداد إبان العصر البويهي» للدكتور طه حسين عبدالعال، والكتاب في الأصل أطروحة حصل عنها عبدالعال على الماجستير في التاريخ الإسلامي من كلية الآداب في جامعة عين شمس، وأشرف عليها العلامة المرحوم الدكتور أحمد رمضان أحمد، الذي كان من أعلم المعاصرين بالفِرق والمذاهب الإسلامية. ومن الجدير بالذكر أن البويهيين هم أسرة فارسية شيعية، تمكنت من تأسيس دولة في بلاد فارس على حساب الخلافة العباسية في منتصف القرن الرابع الهجري، ومع تصاعد قوتها فرضت وصايتها وسيطرتها على الخلافة ذاتها، وحكمت البلاد بتفويض من خلفائها وذلك حتى منتصف القرن الخامس الهجري، وعلى رغم الخلاف المذهبي بين الخلافة العباسية السنّية، والبويهيين الشيعة الزيدية، فإن المصلحة حتمت اعتراف الطرفين ببعضهما بعضاً. وفي رحلتنا هذه سنتعرف إلى صفحات جديدة عن القضاء في بغداد، من خلال استعراض موجز لمحتويات فصول الكتاب الأربعة. حمل الفصل الأول عنوان «ولاية القضاة واختصاصاتهم»، عرف فيه القضاء بأنه الحكم أو القطع في الأمور المختلفة، وتعرض للشروط اللازم توافرها في القاضي ومنها الذكورة والبلوغ والعقل والحرية والإسلام والعدالة وسلامة الحواس والعلم بالأحكام الشرعية، ثم تعرض لاختصاصات القضاة - التي اتفق عليها فقهاء السنّة والشيعة - ومنها اختصاصات عامة مثل: الفصل في المنازعات، واستيفاء الحقوق وثبوت الولاية للصغير حين تسلمه ثروته، والنظر في الأوقاف، وتنفيذ الوصايا، وتزويج الأيامى، وإقامة الحدود. كما تحدث عن حالات امتناع الفقهاء عن تولي هذا المنصب وذلك بسبب تدخل الساسة في أمور القضاء، أما علاقة القضاة بالخلفاء العباسيين فكانت قوية، وكان القضاة جزءاً أصيلاً من مجلس الخليفة، بخاصة إذا عقد المجلس لإبرام اتفاق كان الخليفة طرفاً فيه، مثل تجديد التفويض للأمير البويهي. ومن القضاة من قام مقام الوزير مثل قاضي القضاة ابن معروف. وأخيراً: الدور السياسي للقضاة الذي قام به عدد من القضاة مثل القاضي الباقلاني المالكي الذي أرسله عضد الدولة البويهي رسولاً إلى الإمبراطور البيزنطي سعياً لإطلاق سراح الأسرى. الفصل الثاني: دار حول «تنظيم القضاء والوظائف القضائية»، وشمل الجهاز القضائي المكون من قاضي القضاة، وكان بمثابة وزير العدل في عصرنا الحالي، وكان مسؤولاً عن تعيين القضاة وعزلهم وترقيتهم، وقد ابتدع هذا المنصب في عهد هارون الرشيد سعياً للأخذ بمبدأ فصل السلطات، وممن تولى هذا المنصب في العصر البويهي بشر بن عمر بن أكثم، وأبو الحسن محمد بن صالح بن أم شيبان. ومن الجدير بالذكر أنه على رغم تغلب البويهيين الشيعة على الخلافة العباسية، فإنهم لم يتمكنوا من تولية أحد من الشيعة هذا المنصب. أما وظيفة أقضى القضاة فقد استحدثت في عهد البويهيين وأول من تولاها أبو الحسن الماوردي وقد دافع عن الخلافة ضد كل من أساء إليها بخاصة الشيعة، ومن مواقفه الشهيرة رفضه منح الخلافة لقب «شاهنشاه» - أي ملك الملوك - لجلال الدولة بن بويه عام 429ه ومن الجدير بالذكر أن الماوردي المذكور هو مؤلف كتاب الأحكام السلطانية الشهير. الرتبة الثالثة في الهرم القضائي منصب القاضي الذي شغله أحد الفقهاء، ثم نائب القاضي وكان يختاره القاضي؛ لقضاء المهمات التي يعجز عنها، مثل بعد المسافة أو انشغاله بكثير من القضايا، وممن اتخذ النواب القاضي التنوخي الذي استناب أبي بكر بن قريعة على قضاء الأهواز، ومساعدو القاضي ومنهم المستشارون وأمين المال والمشرف على أملاك اليتامى والكاتب والحاجب والخادم، والشهود العدول هم موظفون لدى القضاة وداخل مجلس القضاء للشهادة بين الناس في ما لهم وما عليهم، والوكيل في ذلك الوقت كان عمله يشبه عمل المحامي وكان يتقاضي عن ذلك أجراً، كما تعرض لظاهرة توارث منصب قاضي القضاة من خلال ذكر عدد من الأمثلة مثل أسرة أبي الشوارب والتنوخي والبيضاوي، كما تعرض لتقسيم بغداد لعدد من الدوائر القضائية بلغت ثلاث دوائر، زادت إلى أربعة ثم خمسة بعد ذلك، وعرض أسباب عزل القضاة ومنها ارتكاب بعضهم بعض الأمور المسيئة لهذا المنصب مثل جرائم القتل. كما أشار إلى عدد من المناصب الإدارية المرتبطة بالقضاء مثل المحتسب الذي كان مسؤولاً عن الحفاظ على الآداب العامة وحفظ الأسواق ومنع الغش والتجاوز في الطرقات، وكان يُختار من الفقهاء، واستعان بعدد من المساعدين، ومن القضاة من جمع القضاء والحسبة معاً مثل القاضي أبو جعفر السمناني. وكانت الشرطة من أهم أعوان القاضي الذي لقب بصاحب المعونة. الفصل الثالث: عن «القضاة والحياة الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية». تعرض خلاله لمذهب القاضي وتأثيره في أقضياته. وأوضح الباحث من خلال هذه النقطة غلبة مذهبَي الأشاعرة والمعتزلة على قضاة بغداد خلال فترة الدراسة ومن أشهرهم القاضي الباقلاني وهو مالكي أشعري غير أن المذهب الحنفي كان واسع الانتشار وتولى عدد من أتباعه القضاء في بغداد ومنهم المحسن التنوخي والقاضي السمناني، وكان هناك أيضاً قضاة من الشافعية والحنابلة والظاهرية. كما تعرض الباحث للنقابات في بغداد ودورها القضائي، وكان من أشهرها «نقابة الأشراف» والمقصود بهم المتحدّرون من أهل بيت النبوة علويين أو عباسيين وكان لهم نقيب أهم واجباته ضبط أنساب المنتسبين للنقابة، وكان للنقيب الكثير من السلطات منها الفصل في الخصومات بين المنتسبين للنقابة، والولاية على الأيتام وإقامة الحدود وتزويج الأيامى. وأخيراً تناول الدور السياسي القضاةَ الذي تنوع بين توثيق الأيمان بين الخليفة العباسي والمتغلب البويهي، بجانب الوساطة السياسية بين الطرفين وحشد الناس حال تهديد الدولة من الخارج. الفصل الرابع: تعرض لموضوع «مجالس القضاة». وتناول من خلاله مجلس القضاء العام الذي كان يبدأ بصلاة ركعتين أو أربع يعقبها دعاء بأن يوفقه الله للحكم الصحيح في ما يعرض عليه من قضايا. وفي البداية كان يعقد المجلس في المسجد، وربما يعقد في بيت القاضي إن أراد أو في بيت الإمارة إن رغب، وكان للقاضي معاون من التراجمة بسبب كثرة الوافدين إلى بغداد من غير العرب. كما عرض الكتاب أمر رواتب القضاة التي كان مصدرها بيت المال، غير أن كثيراً منهم تعففوا وشغلوا الوظيفة من دون أجر من الدولة. * كاتب مصري