مراحل التعبير عن مكنون ذلك الإنسان وترجمة ما يدور في داخله و ما يشعر به إلى العيان، أخذت طرقاً عدة حتى ظهر في ستينات القرن الماضي فن «الجرافيتي» في مدينة نيويورك بإلهام من موسيقى «الهيب هوب»، ويعتقد البعض من النقاد أن ذلك الفن كان موجوداً منذ القدم في الحضارة الإغريقية، الفرعونية، والرومانية. «الكتابة على الجدران» ظاهرة اجتماعية قديمة، إذ خضعت الجدران ل «الرأي»، «المعارضة»، «الإصلاح»، و«السخرية» ليتحول «الفن الجرافيتي» فناً من الفنون في الآونة الأخيرة، في شكل رسائل سياسية واجتماعية، وشكل من أشكال الدعاية في بعض الدول الأوروبية، إذ أنشئت شركات كبرى للاهتمام بهذا الرسم وتصنيع الأدوات المستخدمة للرسامين والهواة، ويعتبر أيضاً أحد أشكال الفن الحديث، إذ ألج داخل صالات العرض العالمية. ورغم انتشار فن رسم «الجرافيتي» في المجتمعات السعودية، إلا أن أفراد المجتمع ما زالوا ينعتون هواة هذا الفن بالمرض النفسي، وينعتون فنهم بالتخريب، مطالبين بإيجاد حلول للحد من هذه الظاهرة، كما اعتبرته كل من إدارة تعليم وأمانة جدة سلوكاً لا بد من محاربته، لما سببته لهما من أضرار مالية، إلا أن شرطة جدة اعتبرت الهواية السلبية مخالفة يتعهد عليها صاحبها على أنها مخالفة وليست قضية جنائية. وفي ظل النظرة السوداوية التي يعاني منها هواة الرسم «الجرافيتي» من أفراد المجتمع من جهة، وافتقارهم للدعم من الجهات المختصة من جهة آخرى، يطالب الهواة بتوفير أماكن لهم لممارسة هواياتهم والدعم لتنمية وتدريب ذوي الهواية المكبوته، لتأتي البشرى من رئيس الجمعية العربية للثقافة والفنون في جدة عبدالله التعزي ليكشف عن تعاونهم مع الأمانة في تخصيص أماكن في مدينة جدة لإتاحة الفرصة للهواة. من جهة أخرى، يرى الطبيب النفسي محمد شاوش أنه يوجد نوعين من الكتابة على الجدران إيجابي وسلبي، معتبراً السلبي ترجمة لعوامل وضغوط نفسية يعاني منها الشاب المخرب، مطالباً بتوفير أماكن لتنمية موهبة الفن «الجرافيتي» الإيجابي. «شبان» يحيون فناً يمزج بين الإبداع ... والسلبية أحياناً أبدى الشاب عبدالله زهير استغرابه من عدم استيعاب المجتمع السعودي لمتطلبات الشبان وهواياتهم وتحقيق رغباتهم، بتخصيص أماكن للرسم على الجدران، وممارسة الفن الجرافيتي الذي أصبح أحد أنواع الفن الحديث حول العالم. ويروي عبدالله قصته مع حب الرسم والكتابة منذ أن كان في السنة السابعة من عمره، والتي استمرت معه يوماً بعد يوم حتى وصل إلى المرحلة الجامعية، إذ بدأ برسم صور أصدقائه في الفصل الدراسي، حتى أصبح من أحد هواة الرسم على الجدران في الأماكن العامة، إلا أنه وجد الرعاية من أهله والدعم، وصمم على مسح وتنظيف الجدران التي شوهها سابقاً. وينوي أن يتخصص في قسم التسويق بجامعة الملك عبدالعزيز، ليقدم نفسه للمجتمع كفنان سعودي يرسم الجرافيتي ويقدم الإعلانات والدعايات عبر شركته التي يطمح أن يحققها. وتتفق معه في الحديث الرسامة مريم أبو شال 22 عاماً في أن المجتمع لم يتقبل فكرة الرسم والكتابة بالفن الجرافيتي، منوهة بأن النظرة بدأت تتغير في السنتين الأخيرتين حول الشبان الهواة لهذا الفن. وتروي مريم ل «الحياة» بدايتها في الرسم قبل أربع سنوات، والتي كانت تستفيد من مجلات الرسم والمسابقات التي تنفذ في المدرسة وفي المراكز التجارية، مشيرة إلى أنها رسمت على جدار المنزل ولكنها تداركت ذلك بمسحها التشويه. وأشارت إلى أن نسبة الفتيات اللاتي يرسمن الجرافيتي لا تتجاوز الخمسة في المئة، ما يدل على أن المسابقات والأنشطة في الرسم اقتصرت غالبيتها على فئة الشبان بحسب قولها. وأوضحت مريم أنها انضمت إلى فريق الرسامين بالفن الجرافيتي أخيراً، عبر مجموعة أسست في جدة لممارسة هواياتهم، وتقديم العروض للمراكز التجارية والجمعيات الأخرى، منوهة بأنهم لم يحصلوا على الدعم المادي من أية جهة مختصة، وإنما هي اجتهادات شخصية من الفنانين. بينما يرى الشاب ضياء رامبو 23عاماً أن الفن الجرافيتي يعرف عالمياً بالرسم على الجدران كمخطوطات أو كاريكاتير سواء كان سلبياً أم إيجابياً فهو يعد حرية بالنسبة للفنان. وبين ضياء أن مجموعة الهواة الرسامين تواصلوا مع أمانة جدة وجمعية الثقافة والفنون ولكن دون جدوى،ما دفعهم إلى إنشاء المحل الذي أسسه مع مجموعة من الهواة للرسم الجرافيتي والمحبين لهذا الفن، سموه «الضاد للجرافيتي»، إذ يضم جميع من تستهويه الرسومات والكتابات الجرافيتية. وأضاف: «للأسف المجتمع لم يتقبل هذا الفن، و لكن نحن تجمعنا وأسسنا محلاً وأصبحنا ندرب من يريد أن ينمي هواية الرسم، من خلال التعاون معه بجميع الأدوات التي تخدمه في الرسم». وأفاد ضياء أنهم يستخدمون في الكتابة والرسم الجرافيتي البخاخات، وألوان الصباغة. مواطنون ينتقدون... ويطالبون بالعقوبة انتشرت في المجتمعات السعودية ظاهرة الكتابة على الجدران من فئة الشبان وطلاب المدارس بنوعيه الإيجابي والسلبي، ما دفع أفراد المجتمع إلى نعت المخربين والهواة بأوصاف سلبية، مطالبين بإيجاد الحلول للحد من انتشار هذه الظاهرة. ووصف المعلم خالد الشهراني ممارسي هواية الكتابة على الجدران ب «عديمي الثقة» ويعانون صعوبة بالغة في التعبير عن خبايا ذواتهم، مؤكداً أن تعبيرهم لا يتفق مع السياق العام للقيم المدرسية والاجتماعية. واعتبر الكتابة على جدران المدرسة أو في دورات المياه، تشير إلى تدني مستوى العلاقات بأبعادها المختلفة بين الطالب وعناصر المجتمع المدرسي الأخرى، وتكمن صعوبة القضاء على الحالات الفردية لهذه الظاهرة في كونها تمارس في شكل سري وبعيداً عن أعين الرقابة المدرسية، مطالباً المدارس باستحداث برامج وقائية عامة، وبرامج علاجية خاصة، للحد من سلبية هذه الظاهرة على الفرد والمجتمع، كون الدور التربوي يتطلب سبق الضبط الإجرائي في مثل هذه الحالات. وأرجع المواطن عبدالرحمن السالم سبب كره المجتمع للفن الجرافيتي وعدم اهتمامهم بالشبان إلى الممارسات الخاطئة من بعض الهواة، والتعبير العشوائي كالكتابات البذيئة التي ترضي صاحبها في بعض الأحيان، معتبراً كتاباتهم وسيلة للشهرة و تضييع الوقت خارج المنزل من دون فائدة. وقال إن المجتمع العربي لم يعرف الفن الجرافيتي إلا حديثاً، وخصوصاً مع الثورات العربية التي برزت بشكل أكبر في كل من مصر، تونس، واليمن التي شهدت الرسوم الجرافيتية الكثيرة على جدران المدن وشعارات الثورة. فيما يرى المواطن مصعب الفرحان أن الكتابة على الجدران جناية في حد ذاتها، تتطلب معاقبة مرتكبها، إذ إن إتلاف الممتلكات العامة والتعدي على الممتلكات الخاصة جناية يجب القضاء عليها، مشدداً على التحريات والاستدلالات للإمساك بالجاني، وتغليظ العقوبة على مرتكبها بإصلاح الضرر الذي أحدثه والتغريم المالي. وطالب بالحل الفوري من جميع الجهات المعنية لظاهرة الكتابة على الجدران وخلف المجمعات، والتي طالت المساجد، مضيفاً: «أصبحت عنواناً للمجتمع السعودي والذي شوهه البعض في الأماكن العامة، مع تهاون وقصور من الجهات المسؤولة، و نقص التوعية والإرشاد من جانب التربية والتعليم والأسر». «جمعية الفنون» و «الأمانة» تحددان أماكن للهواة كشف رئيس الجمعية العربية للثقافة والفنون في جدة عبدالله التعزي ل «الحياة» عن تقدم الجمعية لمشروع أمانة جدة، والمتمثل في السماح لفناني الجمعية وموهوبيها بالرسم الجرافيتي والكتابة على الجدران في مدينة جدة، تحددها الأمانة في مواطن عدة من المدينة، وذلك لمساعدة الهواة على إبراز إبداعاتهم للسكان في الشكل اللائق، والتي توضع على أبرز معالم المدينة. وقال التعزي إن الجمعية تقيم ورشاً للشبان خاصة بأعمالهم الفنية، سامحة لهم بالرسم والكتابة على جدران الجمعية، لإفراز قدراتهم برسومات هادفة. وأضاف: «الكتابة على الجدران في الشكل العشوائي مرحلة يمر بها الشبان في مراهقتهم، محاولين من خلالها إخراج قدراتهم وطاقاتهم، إذ إن البعض يرسم ليخرج لوحة فنية وجمالية، في حين يعتبر الرسم عند البعض حالة نفسية يفرغ عبرها طاقته وينتهي العمل ويبقى التشويه على الجدران». وشدد على ضرورة زيادة الوعي العام، إذ يرى البعض أن لهم الحق بالكتابة في الأماكن العامة أو التصرف فيها، وأن الرسم على الجدران وسيلة لتفريغ طاقاتهم،مطالباً بتفعيل دور الأسرة والتربية لمعالجة هذا النوع من الأخطاء التي يقع فيها الشبان. وأشار إلى أن الجمعية و إدارة التربية والتعليم ليس بينهما تعاون مباشر، مرحباً بعمل شراكة معهم لاحتضان المواهب الطلابية والشابة من أبناء المدارس في مدينة جدة. «اختصاصي» ل «الحياة»: عوامل نفسية تدفع البعض إلى إفساد الجدران عزا مدير مستشفى الصحة النفسية في جدة سابقاً الدكتور محمد شاوش في حديثه إلى «الحياة» سبب من يتعمد التخريب بالكتابة على الجدران غير المخصصة للكتابة من الشبان إلى معاناتهم من الضغوط النفسية، أو نتيجة لردة فعل حال الغضب التي تسكنه، أو حباً للانتقام، أو التخريب للممتلكات العامة، لتكون هذه التعبيرات رسالة موجهة للمجتمع بإثبات الذات، وقدرته على العمل في شكل سلبي، وجلب الاهتمام وتسليط الضوء عليه. وشدد بضرورة تفعيل الوسائل السلمية، وتعزيز الحوار مع الشبان الذين يعانون من الضغوطات النفسية، ويلجأون إلى ممارسة تخريب الممتلكات العامة بالرسم والكتابة على الجدران، وعدم الحكم عليهم بالانحراف أو النبذ من المجتمع كونهم يجهلون طريقة التنفيس عن طاقاتهم. وأوضح أن هناك نوعين من الكتابة على الجدران، المتمثلة إما في أماكن مخصصة تضعها البلديات لمزاولة الهواية وتفريغ الطاقات والقدرات، وإما في الأماكن العامة غير المخصصة والجدران الخاصة التي تؤذي الغير، وتتعرض لممتلكاتهم وتخربها، معتبراً النوع الأول سلوكاً طبيعياً صحيحاً، وتوجهاً سليماً من الشبان. وطالب بإيجاد أماكن ترفيهية مناسبة لممارسة هوايات الرسم، وتوفير بدائل عن الجدران العامة والخاصة، مفيداً بأن مجموعة من الشبان أصبحت تدافع عن الممتلكات والأماكن العامة التي تطالها أيدي المخربين، الأمر الذي دفعهم إلى إنشاء صفحة على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» لمحاربة الظواهر الغريبة والسلوكيات الخاطئة لبعض الشبان، والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية كردم الحفر في طرقات جدة. واعتبر الكتابة على الجدران من السلوكيات الأقل ضرراً من غيرها، إذ إن السلوكيات الآخرى كالمخدرات، الإرهاب، والإضرار بالمنشآت الحكومية، تعد أخطر منها بكثير، ووجدت لها الحلول من الجهات المسؤولة. ويرى أن وزارة التربية والتعليم لم تمارس دورها في التربية، إذ اقتصرت على الشق الأول من المسمى وهو التعليم، دون التربية أو الاهتمام بالجانب السلوكي للشبان وبناء الذات وتعديل الأخطاء، مضيفاً: «يجب على القطاعات الحكومية والخاصة كافة أن تعالج النقص والقصور تجاه الشبان، والتنبؤ في مشكلات أخرى يجب حلها باكراً قبل أن تتطور وتتفاقم». «تعليم جدة»: المدارس أكثر المباني الحكومية تضرراً أكد المدير الإعلامي التربوي بالإدارة العامة للتربية والتعليم في جدة عبدالمجيد الغامدي ل «الحياة» أن المنشآت المدرسية من أكثر الجهات المتضررة من الكتابة والرسم على الجدران، ما يترتب على إثره كلفة مادية كبيرة للصيانة والإصلاح وأوضح أن إدارة التربية والتعليم في جدة تتيح الفرصة للطلاب الموهوبين بالرسم، من خلال عقد المعارض وورش العمل للطلاب، إضافة إلى الدورات التدريبية المقدمة لهم لتنمية مواهبهم، عوضاً عن التخريب وتشويه الأماكن العامة. وأشار إلى أن بعض المدارس تنفذ رحلات مدرسية إلى الأماكن العامة كالكورنيش لتنظيف المخلفات وإصلاح أضرار العابثين والمخربين، والرسم على لوحات فنية تحاكي المناظر وجمالية الأماكن العامة، مبيناً أن بعض المدارس تشيد معارض فنية لطلابها داخل المدرسة لإبراز مواهبهم، والتي تندرج ضمن برامجها الإرشادية التوعوية. وأضاف: «لا نلقي باللوم على جهة مخصصة، بل إن الخطأ مشترك، إذ إن عدم الوعي العام بأهمية الممتلكات العامة وقلة الأماكن الترفيهية، يسهمان في ذلك، والتربية والتعليم تقوم بدورها في توعية الطلاب من طريق الإرشاد الطلابي في المدارس، وتوفير أنشطة فنية داخل المدارس، والبرامج الهادفة».