أنشأ «الربيع الأردني» مجموعة من التحديات والاستحقاقات معظمها داخلي، بمعنى أنها حركت تفاعلات وأزمات داخل جسم الجماعة غير متصلة مباشرة بعلاقاتها وأنشطتها مع المجتمع والدولة، وبعضها خارجي، ومن هذه التحديات: الجدال الداخلي العميق حول تعريف الجماعة لنفسها وعلاقتها بالعمل السياسي وإشكالية العلاقة بين الدعوي والسياسي، وربما يكون من أهم التحديات الخارجية (بالنسبة للجماعة) التي كشفت عنها الانتخابات النيابية الأخيرة صعود تيار إسلامي جديد من المستقلين والمتشكلين ضمن حزب الوسط الإسلامي. أعلنت مجموعة من قادة وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين في الأردن عن المبادرة الوطنية للبناء والإصلاح، وغلبت على المبادرة تسمية «زمزم» نسبة إلى اسم الفندق الذي عقد فيه المؤسسون للمبادرة اجتماعهم التأسيسي الأول، وسوف أعود لاحقاً للحديث عن هذه المبادرة ولكن مناسبة الإشارة إليها هنا هي ملاحظة الاستحقاق الداخلي الذي تواجهه جماعة الإخوان المسلمين في الأردن والذي ساعدت مقاطعة الانتخابات على تأجيله ولكنه تأجيل زاد الأزمة، أو قاد الجماعة إلى أفق مسدود كما يقول القائمون على مبادرة «زمزم» في تفسيرهم لدوافع المبادرة. فالإخوان المسلمون يواجهون انقساماً داخلياً حول تعريف أنفسهم ودورهم في الحياة العامة وصراعاً عميقاً وحاداً بين الأفكار والأجيال، ويواجهون منذ 1989 أزمة مع الدولة والمجتمع بسبب عدم قدرتهم أو رغبتهم في إعادة ترتيب أوضاعهم القانونية والبرامجية بما يتفق مع المرحلة السياسية التي دخل فيها الأردن باستئناف الانتخابات النيابية وإفساح المجال واسعاً وبلا قيود للأحزاب السياسية والصحف ووسائل الإعلام للعمل العلني وترخيص نفسها وفق القوانين المنظمة للحياة السياسية والإعلامية، وقد طرحت في 1992 مبادرة داخل جماعة الإخوان المسلمين للتكيف مع مرحلة العمل السياسي الحزبي العلني، وكانت المبادرة تقوم على التفكير في السيناريوات المستقبلية المتوقعة، الاندماج في حزب جبهة العمل الإسلامي أو توضيح العلاقة والفرق بين الحزب والجماعة وحل إشكالية التكرار والازدواجية على أساس من الاستقلال التام بين الكيانين، أو تنظيم الأدوار والعلاقات بين الحزب والجماعة وفق أسس قانونية ملائمة للعمل السياسي والإسلامي، أو بقاء الوضع كما هو. وطرحت أسئلة افتراضية (في حينه) يجب مواجهتها، كيف تنظم وتدار المشاركة في الانتخابات النيابية؟ كيف تتخذ القرارات السياسية حول المشاركة والعمل السياسي والمواقف السياسية المختلفة؟ كيف تنظم وتحدد العلاقة مع حماس والتنظيم العالمي للإخوان المسلمين؟ ما الفرق قانونياً وسياسياً وفكرياً بين مرحلتي ما قبل 1989 وما بعدها؟. والواقع أن الإخوان المسلمين لم يكونوا قادرين على التصديق أن البلد دخل في مرحلة سياسية جديدة، وأن احتمال تشكيل حكومة مستندة إلى غالبية برلمانية وفق التقاليد السائدة في العالم يبدو غير وارد، وتعاملوا مع العمل السياسي على أنه مشاركة عامة في البرلمان والعمل العام في سياق التأثير والضغط والدعوة، وتحول حزب جبهة العمل الإسلامي إلى قسم تابع للجماعة، ثم وقع الحزب والجماعة معاً في قبضة حركة حماس، ولم يجرؤ أحد على طرح إشكالية العلاقة مع الدولة والمجتمع والتكيف مع القوانين والأنظمة النافذة والتحول نحو مرحلة علنية ديموقراطية. ربما كان الأمر يبدو للسلطة والجماعة غير ملح وليس خطيراً أو إشكالياً لسبب بسيط وواضح أن العملية السياسية كانت تبدو بعيدة عن هذه الإشكالية، ولم يكن الإخوان يمثلون سوى حالة ضغط وتأثير، وفي المقابل فإنهم يقدمون للدولة والمجتمع حالة من الاستقرار وقدرة على مواجهة واستيعاب التطرف. وكان ثمة قبول ضمني متواطأ عليه بين الطرفين على قواعد العمل والتأثير والمصالح المشتركة. ولكنه اليوم يبدو تحدياً يواجه الطرفين من أجل إعادة تكييف المجتمع والدولة مع مرحلة سياسية جديدة قائمة على الحكم البرلماني واستحقاقاته. وقد أظهرت الانتخابات النيابية الأخيرة صعوداً كبيراً للإسلاميين من غير الإخوان المسلمين، فقد حصلت قائمة حزب الوسط الإسلامي على أعلى الأصوات بين القوائم الوطنية وقدمت إلى مجلس النواب عدداً من النواب الإسلاميين لا يقل عن العدد المتوقع أن تحرزه جماعة الإخوان المسلمين لو شاركت في الانتخابات النيابية، وقد يعني ذلك قدرة الدولة والمجتمع على إعادة تنظيم وتشكيل الدور الديني والإسلامي في السياسة والعمل العام من دون تفاوض معقد مع الإخوان المسلمين أو تأثير كبير وطاغ للجماعة على جمهور المتدينين، كما كان يبدو الأمر طوال السنين الماضية. وعلى أية حال فإنها تفاعلات ومؤشرات في بدايتها وقد يكون مبكراً الجزم بنتائجها وتأثيراتها النهائية، ولكنها حقائق جديدة بدأت تعمل على الأرض وتؤثر فيها. * كاتب أردني