اقترنت كلمة «مولانا» عبر حقب التاريخ الإسلامي بأهل العلم والفضل، و نجدها منتشرة في كثير من كتب أهل العلم، لا سيّما في ما بعد القرن الخامس الهجري. وعند المتصوفة شاع استخدامها مع جلال الدين الرومي الشاعر والمتصوف الشهير... أما لغوياً، فالمولى هو الشخص المُطاع بين الناس، وتطلق في مخاطبة الولاة، كما يخاطَب بها العلماء والقضاة ونحوهم، ولا يخفى ما في هذه الكلمة من دلالات على الطاعة والتسليم للشخص الذي يحمل اسم «مولانا». وفي الروايات المعاصرة هناك رواية بعنوان «بنت مولانا» للكاتبة الفرنسية مورل مفروي أثارت جدلاً نقدياً كبيراً، تناولت فيها علاقة جلال الدين الرومي مع شمس الدين التبريزي. ولكن بعيداً من هذه المنعرجات، فإن رواية إبراهيم عيسى التي حملت اسم «مولانا» -وبلغت القائمة القصيرة في جائزة البوكر وستتحول الى مسلسل تلفزيوني - ليس لها علاقة من قريب أو بعيد بجلال الدين الرومي، بل بطلها هو الداعية حاتم الشناوي، شيخ أزهري معمّم يحمل لقب مولانا على مدار الرواية ( 554 صفحة)، وتحتل صورته الغلاف في زيّه الأزهري، ولحيته المعتدلة الطول. منذ الصفحات الأولى للرواية يدخل القارئ عالَم حاتم الشناوي في قلب الأستوديو الذي يصور فيه إحدى حلقاته التلفزيونية، وتتكشف شخصية مولانا بعد فقرات قليلة، مع كمّ الأقنعة التي يستخدمها للحفاظ على هيئته، وعلى اللقب الذي ناله عبر كفاح طويل وجهاد نفس أدى إلى تشققها وبلائها، فمن مفسر أحلام مستتر لصفحة تُنشر باسم شيخ كبير يشاركه نصف المكافأة، إلى واجهة الشاشة البراقة، من الفُتات إلى الملايين... هكذا بمحض الصدفة تمضي حياته من شيخ أزهري مجهول إلى داعية ونجم عبر الفضائيات. لا يمكن تفكيك رواية «مولانا» وما فيها من خيوط متداخلة من دون الإحاطة التامة بشخصية حاتم الشناوي؛ لأنه العماد الأول الذي بنى الكاتب عليه روايته، وظل ما يدور في فضائه مجرد تفاصيل متممة للصورة، بيد أنه من المهم القول إن «الشناوي» لا يجسد شخصاً بعينه، أكثر مما يمثل مرحلة كاملة من الانهيار والفساد والتهتك الاجتماعي، فالإطار العام للشخصية الروائية أنه يفكر بروية، ويتكلم بمزيج من حكمة الواعظ وخفة الفهلوي اللتين تتضحان في مداعباته الرخيصة، التي لا تخلو من إيحاءات جنسية، لكنه عبرها يتمكن من تكوين خلطة خاصة به تميزه عن سائر الدعاة، وتجعله يحتل مكان الصدارة، فهو محنك بالدرجة الكافية، قادر على التلون وفق الموقف والضرورة، وفي الوقت نفسه يعرف مدى كذبه ونفاقه، يقول لأبيه في لحظة صدق: «عارف أنا إيه يا بابا، أنا تاجر علم». (ص 11). يدرك مولانا جيداً أنه يقول ما يريد أصحاب القناة والجمهور أن يقوله، وليس ما ينبغي له قوله، وحجته في ذلك أن الدين له تفاسير ظاهرة وباطنة، للعامة وللخاصة، وما يفسره في حلقة تلفزيونية موجهة لجمهور الشباب تختلف عن تلك الموجهة لغيرهم. ولكن حين يحس الشناوي أن مقتله قد يأتي من التناقضات الدينية التي يقدمها، يعود للعبث من جديد بطرح تفسيرات ثالثة ورابعة مناقضة لما قاله من قبل. لكن روحه تظل قلقة وغارقة في أوجاع شتى. يعرف مولانا الحقائق لكنه لا يستطيع أن يتمرد على قانون السوق الذي يضعه في وهج بريق الشاشة، والبريق هنا تكون ترجمته إلى مال كثير، وحياة مرفهة، ونفوذ، وعلاقات بأصحاب السلطة. يعبر الشناوي عن آرائه التي تنفلت رغماً عنه - في الخفاء - بينه وبين زوجته أو مع نفسه، ولكن لا تمرد، لا اعتراض على قانون الشاشة، وثمة فرق شاسع، فهو عالم ببواطن الأمور وتفاسيرها لكنه يكتمها، يؤجر علمه ومعرفته لمن يدفع أكثر من أصحاب القنوات الفضائية، مدركاً أن له وجهين، وشخصيتين. وفي علاقته مع جهاز الأمن، نراه «يحافظ على علاقة طيبة آمنة مع الأمن من دون أن يعمل موظفاً عندهم أو متوظفاً ضمن طاقمهم الديني المحسوب مباشرة عليهم» (ص 299). وبرغم قدرة الشناوي على اللعب على أوتار عدة وإرضاء جميع الأطراف، إلا أنه لسبب ما يتم الإيقاع به، عبر شخصيتين مهمتين في الرواية وهما «حسن» و «نشوى». تظهر «نشوى» في الرواية وهي تجلس بين الجمهور المشارك في حلقة الشيخ «الشناوي» تتهمه بشكل ضمني أنه يميل إلى فكر «المعتزلة»، وحين يتصاعد ضجيج الحكاية ويصل إلى صاحب القناة، يدافع «حاتم» عن نفسه قائلاً إنه أزهري، والأزهر أشعري المذهب، وإن السؤال المغرض الذي وجه إليه ما هو إلا مِن تَحاسُد العلماء. لكن المفارقة في حكاية المذهب الذي ينتمي إليه حاتم والتي فتحت بابها «نشوى»، هي أن تلك الفتاة لامست وتراً في قلبه، فما كان منه إلا أن بادر للاتصال بها ودعوتها إلى مكتبه، ليلتقي بها على نسق ما يفعله مع مريديه. تأتي «نشوى» وتقود الشيخ إلى مجرى الحب، ثم يتبين له بعد حين أنها فخ منصوب له، لإمساك دليل يدينه. أما «حسن»، وهو من عائلة صهر رئيس البلاد، فهو شاب يترك الإسلام ليتحول إلى المسيحية، وكان المطلوب من الشيخ الشناوي أن يهديه ليعود عن ضلاله، فيأتي «حسن» ليقيم مع الشيخ في بيته، وعلى مدار صفحات الرواية يدافع «حسن» عن فكرة التنصر حتى الصفحات الأخيرة، لنكتشف أن «حسن» من ضمن الأسماء المتهمة بالإرهاب، وبالمشاركة في تفجير الكنيسة التي وقعت في ليلة رأس السنة عام 2010. محاور الرواية تتضمن الرواية أجواءً من الكرنفالية العابثة، فكل ما يبدو أنه مصادفة ليس كذلك، ف «نشوى» التي يقع في حبها الشيخ يتكشف أنها ممثلة من الدرجة الثالثة، وأنها مدفوعة للإيقاع به، وزوجته أميمة يتبين أنها تعرف حقيقة نشوى، وأنها لسبب ما تواطأت ولم تكشف عن هويتها للشيخ. ثم يتبين أن الشيخ الذي خان زوجته مع نشوى، بعد زمن من برود العلاقة بينهما كانت زوجته تخونه أيضاً. ولكن حتى الخيانة تتحول في عقله إلى تساؤل: «هل ممكن أن تكون خيانة أميمة ورقة في يد أمن الدولة ضده؟». إن كل التفاصيل في حياة «حاتم الشناوي» ما هي إلا معبر للشهرة والمال، حيث يتم التعامل مع الشيخ كرجل مشهور أكثر مما هو رجل دين. لا تمكن قراءة رواية «مولانا» بمعزل عن الأحداث الواقعة في مصر، تحديداً في السنوات الخمس عشرة الأخيرة من نظام مبارك، إذ لا يكتب إبراهيم عيسى بأي تستّر عن الحقبة الزمنية، بل إن الرواية تكاد تكون عملاً توثيقياً للعلاقة بين ثلاثة أقطاب: السياسة، الدين، الإعلام. يقدم عيسى رؤيته لهذه الثلاثية التي قدمها كثيراً في مقالاته وبرنامجه التلفزيوني، لكنه اختار هذه المرة أن تحمل اسم رواية عبر اختيار نموذج واقعي لأحد الدعاة الجدد الذين تمتلئ بهم الشاشات، مع استخدام كل الأحداث الواقعية ودمجها في الرواية. لغة تقريرية ولا يخفى الجهد البحثي المبذول في تضمين الرواية كمّاً من الآيات والأحاديث النبوية والتفاسير، لكنّ هذا الجهد البحثي الذي جاء متوائماً مع اللغة التقريرية في النص، لم يوازه جانب تخييلي فني، للتمويه على الجانب الواقعي المعروف مسبقاً، والذي جاءت أحداثه متوقَّعة ولا تحمل مفاجأة من المنظور السردي، وإن بدا أكثر الجوانب المضيئة في النص في إلقاء الضوء على الجانب النفسي من شخصية الشيخ « حاتم الشناوي»، برغم أن هذا لا يحدث إلا في فقرات قليلة، لم تحقق أي تعاطف معه، تماماً كما لم يتمكن السرد الواقعي من جعله مكروهاً، بل بدا نفسياً أقرب إلى البهلوان، لأنه ظل حاضراً في شكل زائف على مدار النص. فلا حضور إنسانياً حقيقياً له إلا في إطار مصالحه، حتى في لحظات ضعفه وحبه المزعوم لنشوى التي كسرت جليد روحه، فهو سرعان ما يتنكر لهذا الحب بينه وبين نفسه لمجرد إحساسه أن سؤالها عن «المعتزلة» سيتسبب في طرده من عمله وخسارته للملايين. أما حياته العائلية، فعلاقته مع زوجته تتسم بالبرود، وابنه الوحيد «عمر» الذي لا يظهر في النص فنعرف أنه يعيش في الخارج للعلاج بعد تقديمه بأنه مريض وعانى من الغيبوبة لأسابيع في طفولته. اختار إبراهيم عيسى أن يختم روايته بحادث انفجار الكنيسة، بحيث يتم الكشف عن تعامل «حسن» مع تنظيم القاعدة. المشهد الأخير في الرواية يمثل خلاصة شخصية «مولانا» المخدوع من زوجته، ومن نشوى، وحسن، والمغرر به من رجال الأمن برغم تنفيذه كل التعليمات. وفي مشهده الأخير بعد انفجار الكنيسة، يجلس مع الأنبا موسى في الكاتدرائية، والأنبا موسى يعرض على شاشة الكمبيوتر فيلماً مسجلاً يظهر فيه «حسن» مشاركاً في عملية التفجير، وحينها يُلمح الأنبا موسى للشناوي بأنه سيكون متهماً أيضاً في حال استمرار اختفاء حسن، ويميل نحوه ويهمس في أذنه: «لا بد أن تعثر عليه يا مولانا وتقنعه بأن يسلم نفسه». يبدو من المهم أيضاً ذكر أن الرواية بشكلها التوثيقي الواضح مضت في ثلاثة اتجاهات سردية، الأول يسجل جزءاً من الأحداث السياسية في مصر، والثاني يكشف الجانب الإعلامي الذي تلعبه الفضائيات في حياة المتلقي، والثالث كيف أثّر هذان العاملان على تشكيل علاقة جديدة مع الأديان، وما تخلل هذه العلاقة من تهم بالإرهاب، والتكفير، وصراعات دينية في مصر لا تزال انعكاساتها مستمرة حتى الآن. لكن كل هذه الخطوط السردية التي اجتمعت في شخص المنشاوي في رواية ضخمة، لزمها نوع من التكثيف، والحشد في الأفكار والمشاهد، بخاصة مع تكرار بعض المواقف في الأستوديو، أو الاسترسال في شروح دينية، للتأكيد على زاوية الرؤية التي يتبناها بطل الرواية.