اليوم أجهر بقهري على سورية. الأحزان ستبدأ حين يسقط الأبد، حين يتوقف حمام هذا الظلم ويتوقف القتل مع آخر حجر سيتبقى في سورية. هذا الحجر الأخير سيكون الحجر الوحيد السوري الذي نجا من مصيره كشاهدة قبر... سيحمل مسؤولية العودة. عودة البيوت وعودة المدارس والحدائق المعلقة والجنائن والأشجار وزهر الليمون والنارنج والورود وأنواع من الحجر ستعمرها مخيلتك يا سوسن عن بناء سورية وحلب تحديداً التي أحببتيها ومت في حبها. والدليل، ابتسامتك الصامتة الساكنة التي لم تفارق وجهك. ماذا تفعلين في القبر تحت التراب يا سوسن! هل التربة لا تزال تصلح للبناء! هل تستطيع مقاومة الرصاص والانفجارات وقصف الطيران الوطني! وحرب الإخوة!. هل يحتفظ التراب بلون الدم! أم أن الشهيد يتطهر من الألم ويعود زهرة برية إلينا... تتوالد مدى الدهر تمدنا بتلك الابتسامة الساكنة الصامتة... ابتسامة الأمل الدفين في قلب الأحزان. كيف تفكرين في تصميم مبنى الهندسة المعمارية في حلب!. ودوار العَمارة الذي قضيت فيه! وأحجار قلعة حلب والأسواق العتيقة حين ذهبنا ذلك المشوار وكنت تمسدين بيدك على كتف البيوت... تشرحين لي تاريخها ودلالات اللون ومعنى الضوء والظلال، والأجداد وامتدادك في التاريخ. قلت لي: حلب تحب الظلال والخيال والصدى والدلالات لأنها حقيقة الذاكرات الجمعية والفردية لماضي الحضارات ولمستقبل الأمل. وضحكنا لحلب. في حلب يضحك الإنسان. لا يمكن أن تستضيفك مدينة بهذه الكثافة في الكرم من دون أن تردي لها الجميل وتضحكين. كنت أرى كيف تبتسمين للشوارع. أنت ابنة هذه الشوارع العريقة. الابنة الفارعة، شجرة الحور العتيق، الشقراء، سوسنة الحنان وإيقاع الصدفة. هل كانت حياتك صدفة يا سوسن فالتقيتك صدفةً حين وقعت في غرام الصدفة! أنا مرضت وأنت مت! لا تحب حلب بحاضرها فقط، إنها تحب بتاريخها، تنهض الحضارة بكل صنوف أفراحها والثقافات وتحب. الطعام ليس طعام أهل البيت فقط... كل من مروا على هذه الأرض يتشاركون في تحديد نكهة الطبق. في بيتك... على طاولتك... كنت تجلسين أمامنا «هيثم» وأنا، وكنت أضيع في سعاداتٍ جديدة أتعلمها عندكم وألقي بروحي في يمكم الدافئ فأرى أن ابتسامة صامتة ساكنة تنبت على فمي. وأن وجهي... تسترخي ذاكرة الانفعالات فيه... لتصير تصغي، تتعلم الهدوء والتوقع والتوق والإيقاع. ستفكرين بتمديد دروب ضيقة بين البيوت... عميقة تحمي من صنوف الموت. وتمدين يدك الشقراء الطويلة بأصابعك وخواتمك الألماس يا سيدة الدلال... وتقطفين عشبة ضارة من حديقة الجيران. ستقولين للعسكري على الحاجز: الله يحميك. ولعسكري النصرة: الله يهديك. ولعسكري الجيش الحر: الله يعينك ويجيرك. وتقولين لسورية: أبوسك. مع كل موت كنت تزدادين إنصافاً وعدالة. من سيحمي سورية إذاً من العنف والظلم! كنت تبحثين عن الناس، تريدين ألا تخلو منهم شوارع الحياة. وكانوا يسقطون أمامك كورق الخريف. تصفر الابتسامات على إسفلت الشوارع. هذا هو الموت إذاً!. مت معهم بينهم مثلهم شهيدة. تمددت شجرة الحور المشمسة التي تخشخش بالفرح والحب والأمومة والأنوثة ومئات أصناف الطعام والغناء والهندسة المعمارية والتصاميم الجديدة والابتكارات. وصمتت. لم أتخيل في عمري أن نموت في وطننا على إسفلت الشوارع، كل هذه البيوت الدافئة الحنونة التي عمرناها في مجتمعنا الحنون، لنموت في الشارع تحت القصف والجور. من قصفك يا سوسن! هل ابتسمت للموت في حكمة يجهلها سواك يا سيدة الحكمة والعفو والتسامح. يا سيدة الأمومة والأخوة والصداقة... والأفراح. هل بكيت وحيدة من الألم لثوانٍ وعرفت أنك راحلة... فتركت وصيتك معلقة في سماء حضارتك. هل عرف القاتل أنه قتلك!. هل عرفت سيدة القصر أن سيدة سورية مثلها قضت في الشارع! كيف تنام وأولاد الناس ونساؤهم ينتهكون كل لحظة لأنهم فقط أرادوا الانتماء إلى حضارة البشر. أرادوا الحرية. هل يستحق مطلب الحرية كل هذه السخرية حقاً وكل هذا السحل والتعذيب والبربرية! هل تستحق فكرة المواطنة المتساوية كل هذه السجون وتمزيق الثقة بين أهل البلد وقطع الأشجار... وانقراض الرياحين وانتهاك التراب. هل تستحق ثورة ابتدأت مطالبة بالإصلاح... يدق فيها أهل البلد ناقوس الخطر، ويؤكدون على ضرورة المساواة والعدالة والقوانين التي تحمي الفرد المواطن في دولة مدنية لا عسكرية ولا دينية، هل تستحق كل هذه الشراسة لإثبات طائفية الناس ونعتهم بالإرهاب وقتلهم ومحاولة حرمانهم من صوتهم لكي يبقى النظام القائم قائماً! هل تستحق سورية وثورتها النبيلة أن تصاب بنبال الطائفية وكتائبها وأموالها. من هو النظام القائم إذا رحلت سوسن قتلاً في الشوارع! كل نظام لا يستطيع حماية السيدات خارج وداخل بيوتهن... يجب أن يسقط. إنه ليس سليل أية حضارة. ما هو النظام! من هم القتلة! ولمن ولماذا وأين وكيف عشش القتل وفرخ القتلة في بلاد التعايش والمحبة! لمَ يبقَ القتلة وترحل سوسن! كل قاتل هو الوجه الآخر للظلام حين يدور الظلام في الظلام وجهه. ... على الشارع في حلب... قضيت يا تاج رأس المحبة. كنا تبادلنا الألم على الرجل الحلبي الذي قال: مرتي تاج راسي. قلت: يا ربي... كيف ستعود الحياة!. ... قال: دعوني أودع أولادي. قال: أين هم. قال: في البيت مع أمهم. قال: هل تدعني (...) بزوجتكَ لأدعك تودع أولادك! قال: صمت الرجل المسجى والممدد والمسحول على الإسفلت في أحد شوارع حلب في لباسه الداخلي الأبيض. قال: شو! قال: صَمت. قال: لكن أبتخليني (...) مرتك...! شو! وين بيتك بخليك تودع أولادك. قال: رفع يده محاولاً إنشاءها كنصب للحوار في الأوكسجين المشترك بينه وبين القاتل «أنستاليشن» للكرامة، هندسة عمارة في الفراغ يا سوسن. قال: عراه من لباسه الداخلي وقهقه. قال: لا تزال يده ممدودة للحوار... كمن يخاطب بشراً... كمن لم يفقده الألم إنسانيته، كمن لم تهن كرامته، كمواطن يخاطب مواطناً: أعوذ بالله مرتي تاج راسي. هي بنت عمي تاج راسي. قال: ضربه على رأسه بالبارودة. قال: ماتَ من الضربة. وقال: لم يكن يتخيل أن بلاده الحبيبة ستخبئ له ميتة مهينة حقيرة ذليلة كهذه الميتة. قال: ارموه في حاوية القمامة. قال: لم يكن يتصور أن عمراً قضاه في العمل والصلاة وحسن الجوار والشقاء... والنطق باللغة العربية... سينتهي به في حاوية القمامة. ... هذا الذي قضى تاركاً وصيته لسورية: مرتي تاج راسي. وضع حجر الأساس في تشييد المواطنة المتساوية. المرأة تاج راس سورية الحضارة يا سوسن. ... الشخصيات: 1 سوسن: المهندسة المعمارية سوسن حقي. شهيدة سورية قضت في سيارتها تحت القصف على جامعة حلب. 2 هيثم: المخرج هيثم حقي الذي فقد شقيقته الشهيدة في قصف جامعة حلب. 3 هالا محمد: مواطنة سورية تقول لسورية كل طالع شمس: سورية أثقُ بك. 4 الشخصية الأولى (قال الأول): مواطن سوري 5 الشخصية الثانية (قال الثاني) شبيح يلبس لباس الجيش النظامي. 6 الظلام: القَتَلة. ملاحظة: تصرخ إحدى الشبيحات وليست من الطائفة الكريمة، بأنه من غير الممكن السماح للمعارضة الموجودة في الخارج بفرصة قبر في سورية. إذا دفنونا في الخارج يا سوسن... انبتي عنا في التراب لا تنسي. التراب أينما كان للميت وطناً. انتهى