الحب المناقض لتوقعات المجتمع وأخلاقياته أحد أكثر المواضيع الرومنطيقية قوة في معظم الأعمال الأوبرالية. ولعل قصة فيوليتا وألبيرتو المستوحاة من رواية «غادة الكاميليا» لألكسندر دوما الابن، هي الأكثر تناقضاً وتراجيدية، إذ اصبحت على أيدي فيردي وبيافي واحدة من ثلاث أوبرات هي الأشهر والأكثر رواجاً في العالم: مدام باترفلاي، بوهيميا، ولاترافياتا، أو «المرأة التي سقطت». أمس الأول كانت «لاترافياتا» مسك ختام مهرجانات بعلبك، قدمتها مؤسسة «شوريجي دورونج» الفرنسية. وليس غريباً أن تمتلئ المقاعد حتى الكرسي الأخير وأن يتحمس الجمهور حتى تكلّ الأيدي تصفيقاً وإعجاباً، خصوصاً أن الوافدين الى الصيف اللبناني هذه السنة بلغ عددهم مليونين، ناهيك بتزايد عدد عشاق الأوبرا بين المقيمين على رغم صعوبات إدراكها والتواصل الكلّي مع تفاصيلها. كانت فيوليتا امرأة متحررة من أخلاقيات القرن التاسع عشر، تعيش علاقاتها كما تهوى، وكان لها عشيق مشهور ومرموق يدعى البارون دوفول، إلا أن صحتها اعتلّت وأصيبت بالسلّ وهي في ريعان الشباب. في الفصل الأول من «لاترافياتا» تقيم فيوليتا سهرة صاخبة لأعيان باريس. بينهم الكونت غاستوني. الذي اصطحب صديقه الفريدو جيرمونت المولع بفيوليتا من بعيد. في هذه الحفلة الصاخبة يفيض قلب الفريدو معترفاً لفيوليتا بحبه. المرأة المجرّبة لا تأخذه في البداية على محمل الجدّ. الصدّ يؤججه أكثر فأكثر الى أن يدرك بوحه أعطافها فتشتعل غيرة البارون ويرفض تنفيذ التقليد القاضي برفع نخب السهرة. هنا يتدخل الحاضرون طالبين من ألبيرتو أن ينوب عن البارون ألبيرتو فلا يتردد، وتنضم إليه فيوليتا والجوقة في «نشيد الشراب». خلال السهرة تشعر فيوليتا بالإعياء وتنصرف الى غرفتها حيث ترى وجهها الواهن في المرآة وتغنّي متسائلة إن كان هذا الألفريدو هو الرجل المنتظر في حياتها. لكنها سرعان ما تستعيد قرارها باعتناق الحرية فيما نسمع ألفريدو من خارج المسرح مستمراً في البوح بحبه. السوبرانو الألبانية إيرمانوللا جاهو، التي سبق أن جاءت الى لبنان بدعوة من مهرجان البستان، استحقت وصفها ب «أرقّ فيوليتا منذ ماريا كالاس» وجاء أداؤها في أحضان آثار بعلبك صدى مدوياً لذلك الوصف، ففي الفصل الثاني، حين يبدأ التصعيد الدرامي بدخول مرحلة القمة ويعيش العاشقان معاً في خلوة خارج باريس، ملأت إيرمانوللا الفضاء المقمر بفرحها، وجاء إنشاد فيتوريو غريغولو (في دور ألفريدو) مكملاً لصورة الحب الملتئم على رغم المصاعب والتقاليد. لكن الحلم أن يتعرّض لهزته الأولى: خادمة فيوليتا، انينا، تخبر الفريدو أن سيدتها ذهبت الى باريس لتبيع ممتلكاتها كي تستطيع تمويل عيشهما الريفي، ويزيد في الطين بلّة تدخل والد الفريدو الذي أراد بكل قواه فصل العرى الوثيقة بين العاشقين بسبب السمعة السابقة لفيوليتا وأيضاً بسبب مرضها العضال وتأثير الأمرين على زواج ابنته من أحد النبلاء. بعد حوار طويل مملوء بالقسوة والرجاء تذعن فيوليتا لطلب والد حبيبها وتقرر كتابة رسالة انفصال عن الفريدو وبالتالي قبول دعوة الى سهرة تنكرية من صديقتها فلورا. غير أن حزنها ينفجر حباً من جديد حين يدخل ألفريدو فتخفي عنه مضمون الرسالة. مع ذلك تدبّ الغيرة في قلب ألفريدو حين يعلم بقبولها الدعوة الى الحفلة التنكرية، فيظن أن البارون عاد الى الواجهة ويقتحم السهرة غاضباً حيث واجه فيوليتا بكلام مهين ما عرّضه لسخط الحاضرين جميعاً. وعلى رغم بساطة الحوافز الخارجية التي تحرك مدّ الدراما وجزرها في هذه الأوبرا فإن ما يجعلها بالغة القوة هو جمال قصائدها والتزاوج الموفق بين الكلمات والموسيقى. حبذا لو تمكنت لجنة مهرجانات بعلبك من نقل ترجمة الكترونية لأهم مفاصل القصة لاستطاع الجمهور متابعة تطورها واستيعاب مضامينها، ففي النهاية إنه جمهور مندفع برغبة الاستطلاع والمعرفة. ولا يتعدى عدد المطلعين على الأعمال الأوبرالية بينهم واحداً في المئة! أخيراً، وعلى رغم تجدد الأواصر بين العاشقين في اللحظات الحاسمة، يتغلّب المرض على فيوليتا فتخرّ صريعة تستفيض حسرة على فراق الحياة وهي عطشى الى الحب الحقيقي.