بعد تأجيل استمر نحو شهرين قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزيارة إلى تركيا في الثالث من كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وصفها زعيما البلدين (بوتين وأردوغان) ب «الاستراتيجية»، فيما وصفتها بعض وسائل الإعلام التركية ب «التاريخية»، بالنظر إلى التحسن المضطرد في علاقات البلدين طوال العقد الماضي. لكن علاقات البلدين عانت خلال العام المنصرم من «انعدام الثقة» المتبادل، على خلفية الأزمة السورية تحديداً، والتي زادتها بعض الخطوات التركية التي اعتبرتها موسكو استفزازية، مثل تفتيش الطائرة السورية الآتية من موسكو ومصادرة حمولتها، أو تهديدية مثل نشر الدرع الصاروخية الأميركية في ملاطية على الحدود التركية - الإيرانية، وأخيراً الطلب من حلف «ناتو» نشر صواريخ «باتريوت» على الحدود التركية مع سورية. تاريخياً، كانت العلاقات التركية - الروسية عدائية أو على الأقل غير سلمية، إذ تثير الحروب الروسية (القيصرية) – التركية (العثمانية) ذكريات مريرة بين الجانبين. فعلى مدى خمسة قرون دارت الحروب والمعارك طويلاً بينهما، إذ تزامن صعود الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية، واستدعى الجوار الجغرافي والاختلاف الديني الاشتباك العسكري بينهما، فموسكو التي كانت تعتبر نفسها «روما الثالثة»، لم تنسَ أن العثمانيين هم من أسقطوا «روما الثانية» (القسطنطينية) عاصمة الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية عام 1453، ومنذ دخول الإمبراطورية العثمانية مرحلة الضعف والتدهور، بداية من القرن الثامن عشر، لعبت روسيا القيصرية دوراً مهماً في تقويض أراضي وممتلكات الإمبراطورية العثمانية في القوقاز وآسيا الوسطى وتقليصها، ولولا لعبة «توازن القوى» الشهيرة بين الدول الأوروبية الكبرى في القرن التاسع عشر لأجهزت روسيا على الخلافة العثمانية تماماً، وروسيا قامت بمساعدة شعوب البلقان وتشجيعها على التمرد على السيطرة العثمانية تحت دعاوى الرابطة السلافية والعقيدة الأرثوذكسية، إلى أن سقط العرشان: القيصري في روسيا على يد البلاشفة عام 1917، والعثماني على يد أتاتورك عام 1923. وعلى رغم التحسن النسبي في العلاقات بين تركيا والاتحاد السوفياتي السابق في سنوات الجمهورية التركية الأولى، قبل بداية الحرب العالمية الثانية، ظهر الاتحاد السوفياتي مرة أخرى باعتباره تهديداً لأمن تركيا القومي، و «عدواً أبدياً للأتراك»، وأصبحت محاربة الشيوعية سياسة الدولة التركية، بل وقررت تركيا الانحياز إلى الغرب خلال الحرب الباردة، فأعلنت انضمامها إلى حلف «ناتو» في عام 1952، بعد سنوات قليلة من تأسيسه عام 1948، ليكون الذراع العسكرية الغربية لاحتواء الاتحاد السوفياتي السابق، وأصبحت تركيا على خط المواجهة الأمامي مع الاتحاد السوفياتي ودول حلف «وارسو» المؤيدة له. ومنذ نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي السابق، صار التحول في طبيعة العلاقات التركية - الروسية أمراً لا مفر منه، إذ رأت فيه تركيا فرصة استراتيجية لا تعوض، فسارعت لالتقاطها ولعبها باحتراف، ونتيجة لذلك، جاءت فترة نشطة من العلاقات الديبلوماسية والاقتصادية وتم تعزيزها من خلال توقيع «معاهدة حول مبادئ العلاقات بين جمهورية تركيا والاتحاد الروسي»، في 25 أيار (مايو) عام 1992. سيف القوقاز وعلى رغم أن مناطق مثل القوقاز وآسيا الوسطى أصبحت بطبيعة الحال مجالاً للتنافس بين روسيا وتركيا في حقبة ما بعد الحرب الباردة، تمكنت كل من أنقرةوموسكو من إيجاد أرضية مشتركة لتطوير الفرص المشتركة، خصوصاً منذ ولاية الرئيس فلاديمير بوتين الأولى في آذار (مارس) 2000، وتولي «حزب العدالة والتنمية» بزعامة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان في عام 2002. فاتجهت العلاقات الروسية - التركية نحو مرحلة أكثر واقعية من شأنها أن تركز أساساً على التعاون بدلاً من الصراع، ولذلك تم توقيع «خطة العمل المشتركة للتعاون في أوراسيا» بين البلدين في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2001، وهي الوثيقة الرسمية الأولى التي ذكرت بناء «شراكة متعددة الأبعاد» بين أنقرةوموسكو، وعُدّت زيارة وزير الخارجية التركي، وقتذاك، عبدالله غول موسكو من 23 إلى 26 شباط (فبراير) عام 2004 حدثاً مهماً، إذ فتح جبهة مشتركة بين رجال الأعمال الأتراك والروس. وتأكد ذلك مع «تعزيز الشراكة المتعددة الأبعاد» بزيارة بوتين تركيا يومي 5 و6 كانون الأول 2004. ونتيجة لذلك، أصبحت تركيا خامس أكبر شريك تجاري لروسيا، قبل اليابان والولايات المتحدة وبريطانيا، فيما ظهرت روسيا باعتبارها أكبر شريك تجاري لتركيا قبل ألمانيا. شغلت سورية موقعاً بارزاً في خريطة «الربيع العربي»، لكونها ذات أهمية كبيرة للغاية بالنسبة إلى السياسة الخارجية لكل من تركيا وروسيا، وظلت تركيا تبدي شيئاً من ضبط النفس في ما يخص التدخل العسكري الأجنبي في الشأن السوري، مشاطرة بذلك روسيا في موقفها. وأكد ذلك الأمر البيان المشترك لوزيري خارجيتي البلدين في 25 كانون الثاني (يناير) 2011، إذ أشار إلى أن البحث عن سبل تسوية الأزمات الناشئة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يجب أن يتم من دون استخدام القوة، مع الالتزام بحرمة أراضي البلدان المعنية ووحدتها الوطنية وسيادتها. وفضلت أنقرة، في مسألة تغيير النظام السوري، عملية تحوله تدريجاً، وعارضت التدخل الخارجي. إلا أن الموقف التركي أخذ يتبدل منذ صيف 2011، بخاصة بعد شن القوات السورية عملياتها ضد المعارضة في المناطق المأهولة على مقربة من حدود تركيا، اجتاح الأراضي التركية سيل من اللاجئين السوريين. وفي منتصف كانون الأول 2011 كشف النقاب عن عقوبات مشددة فرضتها تركيا على سورية، إذ إضافة إلى القيود المالية، جمدت أنقرة التعاون الاستراتيجي مع نظام بشار الأسد، ومنعت تصدير أنواع الأسلحة والمصنوعات ذات الأغراض الحربية إلى سورية. في المقابل أكد الرئيس الروسي، وقتذاك، ديميتري مدفيديف في تصريح له في أيار 2011، أن روسيا ستستخدم «كل حقوقها في الأممالمتحدة» للحيلولة دون اتخاذ قرار في شأن سورية كالقرار الذي اتخذ في شأن ليبيا، وفي المحصلة استخدمت روسيا حتى مطلع آذار 2012، بدعم من الصين، حق النقض (الفيتو) مرتين في مجلس الأمن الدولي معلنة أنها تخشى تكرار «السيناريو الليبي»، والتدخل العسكري الأجنبي في سورية. وكانت موسكو سارعت إلى دعم خطة كوفي أنان ذات النقاط الست، وشاركت بفاعلية في اجتماع مجموعة العمل المتعلقة بسورية في جنيف في 30 حزيران (يونيو) 2012. وأعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف صراحة أن موسكو لن تؤيد اتخاذ إجراءات ضد النظام السوري في مجلس الأمن الدولي تحت الفصل السابع، دفاعاً عن القانون الدولي وميثاق الأممالمتحدة اللذين يحفظان سيادة الدول. وجاء إسقاط الطائرة العسكرية التركية من قبل سورية في الشهر ذاته، ليزيد التباعد والهواجس بين موسكووأنقرة، إذ ربما أسقطت الطائرة التركية بصاروخ روسي، إذ ترسو ثلاث سفن حربية روسية قرب ميناء اللاذقية، وواحدة من هذه البوارج لديها أنظمة الدفاع الجوي والرادارات اللازمة لحماية سورية. وعلى رغم أن موسكو أعلنت أن الحادثة التي ارتكبتها سورية لم تكن عملاً مخططاً وأنقرة تصرفت بطريقة ضبط النفس، إلا أن حادث الطائرة المدنية السورية التي أجبرتها طائرات سلاح الجو التركي على الهبوط في 11 تشرين الأول (أكتوبر) 2012، التي اشتبهت أنقرة في أنها تقل شحنة عسكرية لوزارة الدفاع السورية، وأكدت روسيا أن الطائرة تقل تجهيزات رادار لا تحظرها الاتفاقات الدولية، زاد من درجة التباعد والتوتر في العلاقات الروسية - التركية. إذ ألغى بوتين الزيارة التي كانت مقررة، حينذاك، إلى تركيا. وعلى رغم أن البيانات الرسمية التي صدرت عن لقاءات بوتين مع المسؤولين الأتراك خلال زيارته الأخيرة أنقرة، كرست «الاتفاق على الاختلاف» في مقاربة الملف السوري، إلا أن المسؤولين الأتراك لاحظوا أن روسيا لم تعد متمسكة بالأسد كما في الماضي، وأنها لم تربط تطور علاقاتها بتركيا بموقفها من الأزمة السورية على رغم اختلافهم الكبير معها في المواقف المعلنة، وقال مسؤول تركي إن روسيا وافقت على تحييد علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع تركيا عن «الاختلاف السياسي»، مشيراً إلى أن الاختلاف السياسي قد يكون موقتاً، لكن المصالح التي تجمع البلدين أكبر بكثير. ولا تزال تركيا على قناعة بأنه لا يزال ممكناً إقناع روسيا بالبحث في «مرحلة ما بعد بشار الأسد»، وأردوغان يسعى إلى تغيير منظّم في سورية من دون الرئيس السوري وسيصب جهوده في مطلع العام الحالي، من أجل ذلك مع الرئيسين الروسي والأميركي. بعدما طلبت أنقرة من حلف شمال الأطلسي نصب صواريخ «باتريوت» على طول الحدود مع سورية، رابطة الطلب تحديداً بالوضع في سورية ومكررة أن حدودها هي حدود «الأطلسي»، جاء رد الفعل الروسي عنيفاً، إذ نصحت موسكوأنقرة بعدم نشر الصواريخ وعسكرة الحدود مع سورية، لأن من شأن ذلك إرسال إشارات سلبية على إطالة الحرب في سورية. وقال الناطق باسم وزارة الخارجية الروسية ألكسندر لوكاشيفيتش في 22 - 11 - 2012، إن «عسكرة الحدود التركية - السورية تعد إشارة مقلقة»، ناصحاً الأتراك بشيء آخر هو استخدام نفوذهم على المعارضة السورية للتوصل في أسرع وقت ممكن إلى بدء حوار بين الأطراف السوريين، وليس عرض عضلاتهم عبر إعطاء منحى خطر للوضع، مضيفاً أن «مثل هذه التحركات لا تزيد بالتأكيد من التفاؤل حيال حل سياسي سريع» في سورية. ومن بعدها جاء الرد التركي على الموقف الروسي من رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان، على هامش مؤتمر قمة مجموعة الثماني الإسلامية النامية في العاصمة الباكستانية إسلام آباد (22 - 11 - 2012)، إذ قال إن «نشر الباتريوت لا يعني روسيا ومن الخطأ أن تتدخل روسيا في شأن تركي داخلي. والصواريخ هدفها دفاعي عن أمن تركيا»، وإن لم ترد أنقرة رسمياً على الموقف الروسي، مكتفية بالقول إنه إجراء دفاعي لأنها لا تريد الدخول في سجال مع روسيا وتوتير الجو عشية وصول بوتين إلى أنقرة في الثالث من كانون الأول الماضي، إذ قال بوتين إن «أنظمة الباتريوت ليست الأنظمة المثالية للدفاع الجوي في العالم»، داعياً إلى عدم إيجاد أية إمكانيات للتوتر، ومشيراً إلى أن نشر الصواريخ لن يقود إلى الانفجار، ولكنه سيقود إلى المزيد من التصعيد، وقال: «إن البندقية التي تعلّق على الحائط في أول المسرحية لا بد أن تطلق النار في نهاية المطاف». وتذهب قراءة موسكو لنصب «ناتو» صواريخ باتريوت بعيداً من فكرة الدفاع عن الحدود التركية في المرحلة الحالية، إذ لا مبرر في هذه المرحلة بمعطياتها الآنية للقلق الحدودي، لذا ترى موسكو أن الخطر الحقيقي يكمن في النيات والاحتمالات المستقبلية، وليس في الخطوة الآنية بذاتها، بل إن بعض التقديرات الروسية لا تستبعد استخدام تلك الصواريخ ضد الطائرات السورية مباشرة من دون التعرض لهجوم، وذلك في إطار عملية حظر جوي يتم فرضها على نظام الأسد، لكنها قد تمتد أيضاً لتشمل غزواً لسورية يقوم به (ناتو)، ويعتقد خبراء عسكريون روس أن ثمة تخطيطاً لاجتياح محتمل لسورية عبر الأراضي التركية، ليس بواسطة «الجيش السوري الحر» أو غيره من القوات والفصائل التي تحارب النظام، وإنما مباشرة بواسطة قوات الحلف، ولعل هذا ما حفز الروس إلى إرسال أربع بوارج إلى مرفأ طرطوس في رسالة واضحة ومباشرة إلى واشنطن، وليس فقط إلى أنقرة أو (ناتو)، في خطوة مرتبكة من ردود الفعل الروسية على هذه التطورات. الشراكة الاقتصادية منذ زيارة بوتين قبل الأخيرة اسطنبول قبل ثماني سنوات، أصبحت تركيا خامس أكبر شريك تجاري لروسيا، قبل اليابان والولايات المتحدة وبريطانيا، فيما ظهرت روسيا باعتبارها أكبر شريك تجاري لتركيا قبل ألمانيا. وتعززت هذه الشراكة الاقتصادية خلال زيارة بوتين الأخيرة تركيا، إذ اصطحب وفداً ضخماً من رجال الأعمال، ووقع الجانبان عدداً من الاتفاقيات الاقتصادية والسياحية، بينها إلغاء تأشيرة الدخول بينهما واتفاقيات في القطاع المصرفي والنووي والصناعي والزراعي. وأشاد بوتين بالصداقة التركية - الروسية، مشيراً إلى أن حجم التبادل التجاري بين البلدين نما في عام 2011 بنسبة 27 في المئة وفي الأشهر العشرة الأولى من العام الحالي بنسبة 14 في المئة، مشيراً إلى أن البلدين يسعيان إلى رفع مستوى التبادل التجاري إلى 100 بليون دولار خلال السنوات الأربع المقبلة. ولعل أهم مجال للتعاون هو مجال الطاقة وخطوط الأنابيب المتعددة المقبلة من روسيا عبر تركيا، من دون أن ننسى أن أنقرة تستورد بحدود 40 في المئة من احتياجاتها من الطاقة من روسيا، كما أن الاستثمارات المتبادلة كبيرة في البلدين. وقام أردوغان وبوتين بتوقيع 11 اتفاقية تعاون مشترك، بداية من افتتاح بيوت ثقافية في كلا البلدين وحتى مشروع إنشاء محطة للطاقة النووية في أكويو على ساحل البحر المتوسط بكلفة تصل إلى 20 بليون دولار. أكد أردوغان أن كلا البلدين يستهدف رفع قيمة التجارة المشتركة لتتجاوز حاجز 100 بليون دولار سنوياً - مقارنة بنحو 40 بليون في الوقت الراهن - على مدار الأعوام السبعة أو الثمانية المقبلة، وتعتبر روسيا بالفعل الشريك التجاري الأول لتركيا (ولكن الاتحاد الأوروبي يأتي في المرتبة الأولى إذا ما تم اعتباره كياناً واحداً)، إذ يعد النفط والغاز الروسيان أهم بنود التجارة المشتركة بين البلدين، وتعتمد تركيا على الغاز الروسي في توليد الكهرباء بصورة أكبر من الروس أنفسهم، وربما يزيد هذا الاعتماد بصورة أكبر نظراً إلى العقوبات المفروضة على إيران، إذ تتطلع تركيا للنفط والغاز الروسيين لتعويض انخفاض معدل وارداتها من إيران على مدار أشهر الشتاء، ومع توافد ما يقارب 4 ملايين سائح روسي سنوياً إلى المنتجعات التركية الواقعة على البحر المتوسط، وفي ظل التزايد المستمر للزيجات التركية - الروسية، فإن هذه العلاقات الطويلة المدى ستجعل الاختلافات الموجودة بين الدولتين أصغر مما هي عليه في الواقع. * كاتب مصري