شكّل نزول فيلم « Zero Dark Thirty» (أو «نصف ساعة بعد منتصف الليل» بلغة العسكر) إلى صالات السينما هذه الأيام، مناسبة لإطلاق نقاش في وسائل الإعلام الغربية حول الدور المتعاظم للمرأة في عالم الجاسوسية. فهل فعلاً يمكن للمرأة أن تنافس الرجل في هذا المجال الذي يرى كثيرون أنه يصلح للجنس «الخشن» أكثر من «الناعم» كونه يتطلب سفك دماء وانعدام الرأفة تجاه الضحية المستهدفة بالقتل؟ مايا (الممثلة جسيكا تشاستين)، بطلة هذا الفيلم، موظفة في الثلاثينات من عمرها التحقت بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أيه) قبل هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وخدمت لاحقاً في «محطة باكستان» مسؤولة عن تحديد الأشخاص الممكن تجنيدهم ليصبحوا عملاء، أو عن تحديد أهداف يمكن أن تقصفها الطائرات بلا طيار (درون). لكن دورها الأبرز، بلا شك، ارتبط بمساهمتها في كشف مكان اختباء زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن في باكستان بعد 10 سنوات من البحث عنه. فحين كان زملاؤها الرجال في وكالة الاستخبارات يجادلون بأن زعيم «القاعدة» يختبئ بلا شك في كهف على الحدود الأفغانية - الباكستانية، كانت تقول إن البحث عنه يجب أن يتركز في المدن وليس في الجبال النائية، وإن الخيط للوصول إليه يكون بتتبع حركة «سعاة بريد» التنظيم لأن بن لادن لا يمكنه أن ينقطع عن التواصل مع قادة تنظيمه. وكما هو معروف اليوم، اكتشف الأميركيون مكان اختباء بن لادن في مدينة أبوت أباد بعدما تقفوا أثر «ساعي بريد» زعيم القاعدة. تلقت مايا بعد مقتل بن لادن، في أيار (مايو) 2011، ميدالية تقديرية هي ومجموعة أخرى من عملاء وكالة الاستخبارات لدورهم في تعقبه. لكن الوكالة امتنعت عن منحها ترقية ذهبت إلى موظفين آخرين. وما زاد الطين بلة أنها تلقت رسالة بالبريد الإلكتروني الداخلي للوكالة تعلن منح ميداليات لعدد آخر من موظفي الوكالة ساهموا في اقتفاء أثر زعيم «القاعدة». نظرت مايا بغضب إلى الرسالة ثم ضغطت على زر reply all قائلة لعشرات من زملائها في الوكالة: «أنتم لا تستحقون نيل الميدالية، فقد حاولتم إعاقتي عن عملي»، في إشارة إلى الجدل بينها وبينهم عندما قالت لهم إن عليهم تتبع «سعاة البريد» بدل البحث عن بن لادن في الكهوف. ويقول ضابط سابق في الاستخبارات الأميركية إن الفيلم الذي سلّط الضوء على الدور الذي لعبته مايا تسبب في «موجة حسد» من زملائها في الوكالة. وعلى رغم أن دور مايا في الفيلم يقوم على شخصية ضابط استخبارات حقيقية، إلاّ أن الوصول إلى زعيم «القاعدة» لم يكن بالتأكيد نتيجة جهدها وحدها بل نتج من تضافر جهود كثيرين ممن رصدوا وجندوا وراقبوا وتنصتوا وحققوا مع معتقلين، إضافة، بالطبع، إلى فريق كوماندوس القوات البحرية (نيفي سيلز) الذي نفّذ الإنزال في منزل أبوت آباد حيث قُتل بن لادن (ذهبت مايا مع فريق الكوماندوس إلى أفغانستان وكانت في انتظارهم هناك عندما عادوا من باكستان حاملين جثة زعيم القاعدة). «مايا» بالطبع ليست الجاسوسة الأولى ولن تكون الأخيرة. لكن دورها، القائم تماماً على شخصية حقيقية، يُعيد رسم دور المرأة الجاسوسة. فهي ليست تلك العميلة النمطية التي تظهر عادة في الأفلام السينمائية وهي تقوم بدور الإغراء الجنسي للنيل من ضحيتها. كما أنها هي ليست أنجيلينا جولي التي تظهر في الأفلام على أنها قادرة على توجيه ضربات موجعة أكثر من الرجال. دور مايا مختلف عن هذه الصور النمطية «إنها صاحبة تصميم لا يلين وذكاء حاد يفوق ما لكثيرين من الرجال على الكرة الأرضية». تقول فاليري بليم، وهي جاسوسة سابقة اشتهرت عام 2003 عندما كشف مسؤولون في إدارة جورج بوش اسمها بهدف إحراج زوجها الديبلوماسي الذي قال إن الأدلة التي تقدمها واشنطن على تطوير نظام صدام حسين أسلحة كيماوية هي أدلة غير صحيحة: «في الثقافة الشعبية، الأنثى العميلة تكون في العادة إما مثيرة جداً جنسياً أو قوية جداً بدنياً - إما ترتدي ثوباً مطرّزاً أو تحمل مسدساً. لكن في الحقيقة السلاح الأكثر أهمية الذي تمتلكينه هو ذكاؤك». وتضيف: «النساء يمكن أن يكن أكثر تفهماً (من الرجال). فالنساء يقرأن لغة الجسد أفضل (من الرجال)، وأحياناً تكون دقائق الأمور الخفية (التي تلاحظها النساء وتغيب عن الرجال) ذات أهمية بالغة». لكن « Zero Dark Thirty» ليس سوى واحد من سلسلة أفلام وبرامج حديثة عن عالم الجاسوسية يذهب دور البطولة فيها لامرأة وليس لرجل، في تغيير لافت عن الصورة النمطية لعالم الجواسيس حيث السيطرة تكون عادة لرجال مفتولي العضلات يقتلون أعداءهم بالعشرات ويمارسون الجنس مع سيل لا ينتهي مع النساء ذوات الجمال الخارق. ففي السلسلة الأميركية «هوملاند»، تلعب كيري ماثيسون (تؤدي دورها الممثلة كلير دينز) دور عميلة الاستخبارات التي تشتهر بتحليلها الثاقب، إضافة إلى دورها الميداني، «من خلال ملاحقتها «إرهابيين» منهم «أبو نذير» القيادي في «حزب الله» - في شارع الحمراء في بيروت!. وفي المسلسل الأميركي الشعبي «كوفيرت أفيرز» Covert Affairs تلعب دور البطولة مدربة شابة في وكالة الاستخبارات المركزية تعمل تحت غطاء أنها موظفة في متحف «سميثونيان» في العاصمة واشنطن. وفي بريطانيا، بثت ال «بي بي سي» في الشهور الماضية مسلسلاً جديداً عن عالم الجاسوسية بطلته أيضاً شابة تدعى سام هنتر (الممثلة ميليسا جورج)، التي تجمع بين القوة البدنية والجرأة والذكاء الخارق وكانت تعرضت لمحاولة اغتيال في المغرب وتُركت هناك لتموت قبل أن تعود إلى بريطانيا للانتقام. كل هذه الأدوار لبطولات النساء في عالم الجاسوسية يبدو أنها تلعب دوراً في ترسيخ صورة محددة في ذهن الرأي العام مفادها بأن المرأة يمكنها أن تلعب «دوراً مهماً في حقل الاستخبارات»، كما تقول الجاسوسة السابقة بليم. فهل فعلاً النساء أقدر من الرجال في عالم الجاسوسية، أم أن الأمر مجرد «موجة» تجتاح شاشات السينما والتلفزيون هذه الأيام وتحتل فيها المرأة دور الرجل في عالم الأمن والاستخبارات؟ لا شك في أن بعض النساء يمكنهن تأدية دور أفضل من الرجال في عالم الاستخبارات كما في غيره. والعكس صحيح أيضاً حيث أن بعض الرجال يمكنهم أداء دور أفضل من كثير من زميلاتهم من «الجنس الناعم». إنه جدل لا يمكن تعميم النصر فيه للإناث أو الرجال. لكن مجرد طرحه للنقاش لا بد من أن يدفع أشهر جواسيس بريطانيا، جيمس بوند أو 007، إلى أن يكون قلقاً اليوم من أن النساء في طريقهن لإطاحته عن عرشه في عالم الجواسيس ... أو بالأحرى الجاسوسات!