"حي السلّم" على التلفزيون! خبر يصح للصفحات الأولى من الصحف. "حي السلم" هو "ضاحية" الضاحية الجنوبية لبيروت، المعروفة بتكوينها الديموغرافي المعقد. طبقات مكدسة من باطون "غير مسلح". ناس متعبة واكياس فارغة. جماجم هلكت وحناجر هتفت مناصرة قضايا وأحزاب، بعد ان هجّرها الجوع من بيوتها في بعلبك والهرمل، وتركها شريدة المنازل المهترئة. ... وأخيراً "حي السلّم" على التلفزيون! "ضاحية" الضاحية، التي لا يستوعبها لبنان إلاّ في أخبار السرقات والجرائم، طلّت من تحت المطر. اختلف الحدث: اليوم لم يسرق أحد أبنائها سيارة، ولم يحدث تبادل لإطلاق نار بين شوارعها. ولم يتعرّض موظف جباية للاعتداء في أحد مبانيها، ولم تشعل الدواليب مطالبة بعودة الكهرباء "المقطوعة". باختصار، لم يكن "حي السلم" على الشاشة اليوم "المجرم- البُعبع" التي لا تجد وسائل الاعلام غيره جانباً للاضاءة عليه. بل حي السلم كان ببشره وحجره ضحية العاصفة. وصلت الكاميرا والمذيعة المبهورة الى زواريب حي السلّم، لتنقل بالصوت والصورة الحدث، ولتقابل الناس المنكوبين ال "يا حرام"، كما يصفهم بعض رواد التواصل الاجتماعي. يروون مأساتهم بشفقة "زائدة". وتعصف الدهشة بمعالم وجه المذيعة، وقد اسقطت "سهواً" في مكان اربكها، ودفعها الى الكلام "شكل "جارف" واصفة "هول" ما يجري، فسقطت معها الكلمات محاولة التقاط المشهد كله، والناس مشغولون عنها بكارثتهم. يعبرون بالجرافات، التي استأجروها على حسابهم الخاص، وليس من مال وزارة الاشغال العامة أو تمويل حزبي او تنظيمي، ليسدّوا مسارب المياه التي اجتاحتهم من كل اتجاه بمنطقتهم المهمشة. استفاق السكان هناك على الكارثة. لم يكتشفهم "بعض" اللبنانيين، الا من خلال ما بثه التلفزيون عن حيّهم الغارق، وهم يركضون هاربين بثيابهم من سيول جرفت حيّهم الفقير المسكون وراء جدران مهترئة. اهالي حي السلم، دخلوا الحدث من بابه العريض، وهم ينتشلون شققهم وأثاث غرفهم واولادهم الصغار، ينتقلون بهم كأغراض معدّة للنقل السريع، ويشتمون امام الشاشات دولتهم "المقصرة"، التي تركتهم يغرقون مع فقرهم وعوزهم. حكايات كثيرة في وجوههم الكامدة. اسماؤهم مغلقة ومعلّقة في هواء الشاشات، التي لم تنته تغطيتها في اكتشاف مأساة الحي. يخبرون الكاميرات عن الخوف ورؤيتهم للموت بأم العين، عن بيوتهم المحاصرة بمياه داكنة، مياه مطر غزير، هطل ولم يتوقف. واضعاً الدولة امام "كارثة" أودت بحياة 4 اشخاص، وحطّمت البيوت وأغرقت البلد في طوفان لا يزال مرشحاً للبقاء إلى يوم غد. تعاطفوا معهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بعد ان أغدقوا "جدرانها" و"تغريداتها" ب"نكات" سمجة، أمس. كان روّاد مواقع التواصل يسخرون من العاصفة القاسية. وضعوا إعلامهم البديل أمام تحدّ واحد: التغيطة المستمرة. بدت متابعتهم "مشوّقة" اكثر من الشاشات. وتحوّل مستخدمو "الفايسبوك" و"تويتر" في لبنان، إلى مراسلين في مناطقهم. ينشرون صور الابنية المنهارة والبيوت المدمرة والعائلات المنكوبة، وبعضهم غامر أمام العاصفة ونشر فيديوهات للطرق وللشوارع والساحات والسيارات المحاصرة بالأمطار. حلّت الكارثة، ولم يبق سوى البكاء والتحسر. غرق البلد ومعه سكان الاحياء الفقيرة تحت رحمة السماء..."والدولة غائبة"، الجملة تكررت في كل تعليق ربما، وما لبثت ان صارت شعار السهرة، لشبان وصبايا يجلسون ببيوتهم يشاهدون الشاشات المتنقلة بين حي وآخر في بيروت، او بين مدينة ساحلية وقرى جبلية، بين مياه الانهر التي طافت ومياه الثلوج المكدسة، فصارت الكاميرات جندياً مجهولاً، بعد يوم من أزمة مربكة أدخلت مؤسسات الدولة وناسها في دوامة الغرق.