لا تظهر مدينة لندن، والتي حطمت قلب «بلال» في الفيلم الفرنسي «مرحبا» الا في مشاهد معدودة. وحتى عندما تظهر المدينة، لا نرى شوارع تشيلسي الفاخرة، أو حانات هامستيد، او انكليزاً يتوجهون الى المسارح في منطقة الويست أند بعد أن انهوا عشاءهم هناك. فمعظم المشاهد اللندينة تم تصويرها في إحدى شقق الفقراء المعتمة في المدينة، حيث تعيش العائلة الكردية العراقية، والتي يقطع بلال اكثر من 4000 كليومتر، في رحلة طالت لثلاثة أشهر، بعضها مشياً على الأقدام، من اجل ابنة تلك العائلة، حبيبته الصبية الشديدة الجمال. لم تكن شقة حبيبة الفقيرة، أو الحياة الصعبة التي يمكن ان تكون بانتظاره في لندن، لتدفع بلال الى التساؤل عن الرحلة نفسها أو جدواها، هو مثل اللاجئين الآخرين الذين تجمعوا في مدينة «كاليه» الفرنسية، لا يترددون عن المخاطرة بحياتهم، لإكمال تلك المسافة القصيرة المتبقية من الرحلة الطويلة المضنية. ولأن البر البريطاني تمكن مشاهدته أحياناً من شوارع المدينة الفرنسية البحرية، وأيضاً تمكن مشاهدة سفن الركاب والحمل في طريقها الى هناك، تزداد وحشة تلك المجموعة وعزلتها الكبيرة عن الواقع. عندما يصل بلال، الذي لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره الى فرنسا، يجد ان المئات من اللاجئين قد سبقوه الى المدينة الفرنسية. بلال لا يضيّع الكثير من الوقت، ويستخدم ما بقي معه من نقود ليدفع الى المهرب الفرنسي، الذي سيحشره مع آخرين في إحدى الشاحنات المتوجهة الى بريطانيا. مبكراً كثيراً في الفيلم، يقدم المخرج الفرنسي فيليب ليورت، واحداً من اكثر مشاهد الفيلم قسوة وتسجيلية، فالمجموعة تغطي الرؤوس بأكياس بلاستيكية، حتى لا يكشف حرس الحدود الفرنسيين المزودين بأجهزة حديثة، غازات تنفسهم. تفشل المجموعة في الوصول، والسبب بلال، الذي كاد يختنق في كيسه البلاستيكي. وتعود المجموعة وتحاكم، وتُطبع أرقام على أيدي المدانين بالسفر غير الشرعي. هذه الأرقام المطبوعة تتحول الى إحدى الاشارات الرمزية المهمة في الفيلم والتي يتم استدعاؤها في اكثر من مشهد. ففي أحد مشاهد الفيلم المبكرة أيضاً، يمنع لاجئون من دخول السوبر ماركت الفرنسي، وعندما تواجه إحدى السيدات الفرنسيات مدير المحل، يرفض الأخير النقاش، لتخاطبه السيدة: «ألم نتعلم ماذا يعني ان يُمنع أناس معينون من دخول المحلات»، في إشارة الى التاريخ اليهودي في أوروبا. وفي مشهد آخر، وهو المشهد الذي يمهد لعلاقة بطل سباحة فرنسي سابق مع بلال، يلاحظ مدرب السباحة، الرقم على كف الشاب العراقي، والذي بدأ بتدريباته السرية لعبور المانش سباحة للوصول الى بريطانيا! يقدم فيلم «مرحبا»، والذي كان احدى مفاجآت الصالات الفرنسية أخيراً، بمشاهدين تعدّوا المليون فرنسي، ويعرض الآن في صالات منتخبة في هولندا، جزءاً من الرحلة الطويلة للهاربين من بلدانهم، والتي كان قدمها المخرج البريطاني مايكل وينتربوم أيضاً في فيلمه «في هذا العالم». واذا كان المخرج البريطاني، يقدم الرحلة كاملة، يكتفي زميله الفرنسي بالجزء الفرنسي من الرحلة، والذي ما زال يثير الكثير من النقاش السياسي والاجتماعي في بريطانيا وفرنسا، فما الذي يدفع الألوف كل عام، للمخاطرة بحياتهم، لترك فرنسا والهرب الى بريطانيا؟ الجواب الغائب لا يجيب الفيلم عن هذه الأسئلة، والتي يرتبط بعضها بسياسة فرنسا في استقبال اللاجئين، لكنه يجيب عن أسئلة أخرى، ويسعى الى تجنب الكليشيهات، ويسقط في أخرى، فالشاب العراقي يكشف بصدق انه يرغب العمل في بريطانيا لمساعدة أسرته، وهو الأمر الذي يغضب الكثيرين في الدول الأوروبية، الذين يعتقدون ان حق اللجوء السياسي يجب ان يقتصر على الفارين بحياتهم من خطر الموت أو السجن. كذلك يقدم الفيلم مجموعة اللاجئين في المدينة، من دون مثالية مضخمة، فهم يشاهدون، وبعضهم شديد العنف، احد الأشخاص المهمين في الفيلم لا يتورع عن سرقة الفرنسي الذي استضافه. مع قصة بلال، هناك قصة مدرب السباحة الفرنسي، والذي يتعرف إلى بلال في المسبح الذي تدرب فيه. يدخل بلال الى حياة المدرب في أوقات عصيبة للأخير، فهو عاجز عن فهم الأسباب التي جعلت زوجته تتركه وتختار شخصاً آخر. في بحثه الذاتي عن أجوبة، يصل بلال، ليكتشف البطل الفرنسي، أنه لم يهتم بالقدر الكافي بأي شيء، خارج حياته الصغيرة، وربما كان هذا أحد الأسباب لنهاية زواجه. وعلى رغم ان رغبة بلال في عبور المانش، هي التي تهمين على الفيلم كله، إلا أن القصة التي تتطور فعلياً في الفيلم، هي قصة مدرب السباحة الفرنسي، فلا شكوك في إصرار بلال على الوصول الى لندن، فيما يواجه البطل الفرنسي، أسئلة متشعبة، عن ذاته، وحياته، والعالم الذي يعيش فيه، وهو الذي سيقدم اكثر مشاهد الفيلم تأثيراً، مثل المشهد الذي يكتشف فيه ان بلال قرر ان يسبح البحر الى بريطانيا، فيحاول الفرنسي إيقافه، ويذهب الى البحر، ليجد حذاءه وأمتعته على الساحل، فيتصل بالشرطة، وحين تطلب الشرطة اسم عائلة بلال، يدّعي الفرنسي ان بلال ابنه، في لقطة مقربة مؤثرة لوجه الفرنسي. يقدم الفيلم الجزء الأخير من رحلة بلال، والتي لا تهم كثيراً الوجهة التي انتهت اليها، بقدر أهمية تلك المشاهد الرائعة، للصبي العراقي وهو يسبح في بحر شهر شباط (فبراير) البارد والهائج هنا. لأكثر من دقيقتين ترافق الكاميرا بلال الضائع في ذلك البحر الذي يبدو انه سيبتلعه مع كل موجة، بعيداً من أهله وحبيبته، ومن كل شيء.