بكل تأكيد كان عام 2011 موعداً حقيقياً للتحول من الزعامات الفردية وقرارات القائد الأوحد ورغبات فئة بعينها إلى عهد جديد سمته العمل الجماعي وقرارات المجموعة ورغباتها. فالثورة الشبابية في مصر لم تكن مجرد ثورة على وجه واحد من الظلم، أي الفساد والطغيان، لكنها كانت ثورة على الوجه الآخر منه أي وجه القائد الواحد ذي الرغبة الواحدة والأدوات التي لا تعرف التجديد أو الابتكار أو التنويع. كانت ثورة على استمرار تركز كل السلطات في يد واحدة تعتريها خطوط العمر وتجاعيد السنوات وخبرات لا تعني بالضرورة حكمة وحنكة، بل قد ينتج منها قصر نظر واستثمارات سريعة الأثر وتركيز على مستقبل الورثة وليس مستقبل الوطن. ولأن جل التركيز اليوم هو على الثورة المصرية وآثارها، الإيجابي منها والسلبي، وتمجيد الشباب الذي أشعلها على حين غرة، فإن الأوجه الأخرى للثورة تنتظر من يكتشفها ويحللها ويخرج منها بالنتائج والعبر. أبرز تلك الأوجه هو بزوغ نوعية جديدة من اللاعبين على الساحة، وهم كثر، لا يجمع بينهم سوى كونهم ينتمون إلى فئة الشباب العمرية، بالإضافة إلى نقمتهم المشتركة على فكرة القيادة المتركزة في يد شخص واحد. ويمكن تأريخ مسيرة مصر الشابة لعام 2011 على ضوء هذه القيادات والتحركات الجماعية. أولها بالطبع الثورة التي دعا إليها عدد من الشباب، واستجابت للدعوة أعداد أكبر منهم، فنزل الجميع إلى الميدان كأفراد ومجموعات من دون قائد يسيرون خلفه، أو رأس مدبر يملي عليهم تحركاتهم، اللهم إلا دعوة إلكترونية هنا لاستمرار الاعتصام، أو «تغريدة» محذرة في «تويتر» هناك. صحيح أن القيادة الجماعية الشابة للثورة كانت أشبه بحلم أفلاطوني جميل تغنى به كثيرون وأثنوا عليه، إلا أنه بمرور الأيام والأسابيع والأشهر اتضح أن الوجه الآخر لعدم وجود قائد هو عدم وجود قرار ملزم. وهذا بدوره أدى إلى شيوع نوع من الفوضى بين مؤيد ومعارض لقرارات الاعتصام والتظاهر، وتنظيم المليونيات، والاحتكام إلى لجان التوافق ومجالس الاستشارات والحكماء. وانعكس ذلك في شيوع ظاهرة الانقسامات الداخلية في المجموعات الشبابية التي تشكلت حديثاً، وظهور أجنحة مختلفة داخل جماعة «6 أبريل» على سبيل المثال لا الحصر. وعلى رغم ذلك استمرت تلك المجموعات الشبابية على نهجها في مبدأ القيادة الجماعية، مع الاكتفاء باختيار «مجموعات» من المتحدثين باسم هذا التجمع أو ذاك الائتلاف. ويبدو أن الحكومات المتعاقبة على إدارة مصر منذ تنحي الرئيس السابق حسني مبارك أيقنت أن المزاج الشبابي لن يتقبل – على الأقل في هذه المرحلة – فكرة تمركز شخص ما في سدة الحكم والإدارة. ولعل ذلك يفسر سر ظهور عشرات المجالس الاستشارية والحكماء والتوافق والمصالحة الوطنية، وغيرها من الكيانات الجماعية التي تشتمل على وجوه شابة جنباً إلى جنب مع غيرها من الأكثر تقدماً في العمر. وهي في الوقت نفسه وسيلة لدس سم الحكماء في عسل الوجوه الشابة. ثوار من نوع آخر عسل شبابي من نوع آخر سطع نجمه في 2011 هو تلك الجموع من الشباب الصغار من مشجعي النوادي الكروية الذين ظهروا بقوة أثناء الثورة مطلع العام، ولم يعودوا أدراجهم إلى المدرجات بعد 11 شباط (فبراير)، وإنما اختاروا أن يكونوا لاعباً سياسياً أيضاً. واللافت أن ولادة الأتراس في مصر كمجموعات محكمة التنظيم والتشكيل يعود إلى عام 2005 حين تم تنظيم قوتي «ألتراس» من مشجعي الفريقين الرئيسيين: الأهلي والزمالك. ويشير الكاتب محمد جمال بشير في كتابة الصادر حديثاً تحت عنوان «كتاب الألتراس» أنه تم توجيه رسائل عنكبوتية يوم 22 كانون الثاني (يناير) الماضي – أي قبل اندلاع الثورة بثلاثة أيام تشجع الجميع على النزول إلى الشارع وعدم الخوف من المواجهة مع قوات الأمن، معتمدين على حماية الألتراس، وهم أدرى الناس بالمواجهات مع الأمن. واستمر تواجد الألتراس في الشارع منذ ذلك الوقت، وهو التواجد الذي يشير البعض إليه بأصابع الاتهام باعتباره مدفوعاً معنوياً وليس بالضرورة مادياً من قبل بعض القوى الراغبة في استمرار مظاهر الاعتصام والتظاهر لأطول فترة ممكنة. أطفال الشوارع وشبابها ولعل الفترة الأطول هي تلك التي أمضاها أطفال الشوارع الذين أصبحوا شباب الشوارع خلال السنوات الماضية، وهم أيضاً أحد اللاعبين الجماعيين الجدد المنضمين إلى الساحة الشبابية المصرية في 2011. فظاهرة أطفال الشوارع التي تشهدها مصر منذ منتصف الثمانينات، وإخفاق محاولات تطويقها، أسفرا عن ظهور شباب شوارع في شكل واضح في أحداث مجلس الوزراء الأخيرة. وعلى رغم مقاطع الفيديو التي تؤكد ضلوع مجموعات من هؤلاء الشباب في حريق المجمع العلمي قبل نحو أسبوعين، فإن الظاهرة المفاجئة كانت مشاركة هؤلاء في الثورة منذ بداياتها في شكل أذهل الجميع. دراسة حديثة صادرة عن قرية الأمل أشارت إلى أن نحو 66 في المئة من أطفال وشباب الشوارع شاركوا في التظاهرات والاعتصامات بهدف تحقيق الذات، وكوسيلة جذابة للتعبير عن الغضب والتهميش. كما تشير الدراسة إلى أنهم حصلوا خلال الثورة على حقوق بديهية فشل النظام السابق في تحقيقها على رغم المشاريع الكثيرة والمساعدات الأجنبية والدراسات الفنية. فقد تمكن هؤلاء من الحصول على علاج مجاني ومستوى لائق من الرعاية الصحية في المستشفيات الميدانية. ومن جانب نفسي، تمتعوا بمعاملة طيبة خالية من التمييز والكراهية التي يواجهون بها عادة، وهو ما أدى إلى شعورهم للمرة الأولى بإنسانيتهم. تلك الشريحة من الشباب تعتنق أيضاً مبدأ القيادة الجماعية والتحرك بحسب ما تقتضيه ظروف المجموعة وحاجاتها. وفي المقابل وعلى النهج نفسه تسير مجموعات البلطجية، وهي المجموعات التي حار الكل في تفسيرها. فإحصاءات وزارة الداخلية تفيد أن في مصر نحو 92680 بلطجياً و «مسجلاً خطراً»، وهم الخارجون على القانون والمرتبطون بجرائم عنف متكررة. وتوضح دراسة صادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية أن نصف المسجلين خطراً تتراوح أعمارهم بين 18 و 30 سنة، أي أن نصف البلطجية شباب في عمر الزهور.