من الحقائق التاريخية الثابتة ان مصر من أول الدول في العالم التي عرفت مبادىء الكتابة، فاخترعت الحروف الهيروغليفية لتسجيل تاريخها وأعلت من شأن العلم، فكان شيئاً إلهياً، وفي الوقت الذي كانت المجتمعات الاخرى لا تقدس سوى الابطال والمحاربين ورجال الدين قدس المصريون القدماء الحكماء وكان للكاتب فضل السبق على غيره من أصحاب المهن الأخرى، ومن يبرع في الكتابة كان يتبوأ أعظم المناصب. وتكشف الدكتورة شاهيناز زهران في كتابها الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية للكتاب تحت عنوان «الأخلاق في الفكر المصري القديم»، عن أن الحضارة المصرية القديمة تأسست على قيم أخلاقية وفضائل إنسانية، ومن أبرز المصادر التي نستقي من خلالها الجانب الأخلاقي هي الحكم والوصايا التى تركها اصحابها والتى تحلل أرق المشاعر وحب الأبناء والمودة الحميمة والحض على الاعتدال والبعد عن الشراهة، وهي وصايا تجمع بين الحياة العامة والتفلسف، لكنها مالت الى قدر أكبر من الواقعية واهتمامها بالسلوك العملي مثل وصايا (بتاح حوتب) حاكم منف التي ركزت على البناء الاجتماعي وتعاليم (كاجمني) التى تدعو الى ضبط النفس وحسن استخدام الكلم في مواضعه. ويعد «كتاب الموتى» في الدولة الحديثة أكثر المتون تأكيداً على ضرورة النقاء الأخلاقي الذي يجب أن يتحلى به المرء لتأمين حياته الأخروية وتأكيد الإيمان باليوم الآخر وفكرة الثواب والعقاب. ويشير الكتاب الى اختلاف الفكر المصري القديم عن الفكر الصيني الكونفشيوسي، في أن الأخير لم يعط اهتماماً كبيراً بالمعتقد الديني، وفصل الأخلاق عن عالم ما بعد الطبيعة، وصرف الأنظار عن الحياة الاخرى، فلا إيمان بالثواب والعقاب إلا في الدنيا، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وأعطى في مقابل ذلك اهتماماً للعالم الدنيوي، ولمشكلات المجتمع البشري وتنظيم الدولة وفهم حقيقة الحياة عكس الفكر المصري القديم الذي لم يفصل أخلاقياته في الدنيا عن معتقداته في الآخرة. وكان للقلب دوره الأخلاقي في هداية الانسان الى الطريق الحق، واعتبره المصري القديم أهم أجزاء الجسم بوصفه يمثل الإرادة الحرة التي تتحمل المسؤولية عن السلوك الرديء والسلوك الحسن، ولهذا لم يعمد المحنطون الى فصل القلب أثناء عملية التحنيط رغم أنهم كانوا ينزعون القسم الأكبر من أحشاء الجسم. كما يشير الكتاب الى دور سلطة المجتمع في ترسيخ الفكر الأخلاقي، وكشفت النصوص المصرية القديمة عن مواقف أخلاقية صدرت عن ضغط اجتماعي تعبيراً عن رغبات الأفراد في إرضاء المجتمع الذي ينتمون إليه، فها هو (بتاح حوتب) يحض ابنه على فعل الطاعة من منطلق التقدير الاجتماعي: «ما أعظم فرح الإنسان الذي يقول له الناس انه ابن فضيلة كفضيلة سيد المجتمع». وهناك دافع المنفعة كمصدر للإلزام الخلقي الذي يستميل القلوب ويدفعها الى الأخلاق الطيبة ويتجسد في إحراز المرء للشهرة والشعور بلذة الزهو التى تنشأ من إعجاب الناس بفاعل الخير والفضيلة: «اعط الخبز لمن لا حقل له، وبذلك تنال اسماً طيباً يبقى الى الأبد». كما شعر الانسان المصري بالمسؤولية الأخلاقية حين جعل نفسه حاكماً على أعماله التى تصدر عنه، فهو السائل والمسؤول، لأن الانسان ذو عقل، وهذا العقل مصدر لإلزامه الخلقي ومعيار للتمييز بين الخير والشر ومناط التكليف، ومن منطلق الشعور بالمسؤولية يقف المرء أمام قضاة الآخرة ليعلن براءته من ارتكاب الآثام والشرور.