بينما يترنح الاسلاميون المصريون على حافة السقوط في امتحان الديموقراطية العملي، يتعين على ممثلي الطرف الآخر الموصوف ب «المدني»، ألا يفترضوا أنهم أكثر تأهيلاً لاجتياز مثل هذا الامتحان. فالشاهد ان هناك سمة أساسية مشتركة بين الطرفين تجسّر فجوة إمكانية وجود اختلاف ملموس في صلاحيتهما كرافعتين للتحول الديموقراطي، وهي أنهما ينتميان من حيث التكوين القيادي إلى شرائح «حديثة» في مجتمع يمور بمعوقات الديموقراطية. فهذه، وفق مواصفات منشئها الاوروبي، نتاج عملية تحديث مستمرة منذ ثلاثة قرون تقريباً. في توضيح ذلك، بعيداً من الانغمار في الجدل حول الحداثة وما بعدها في مآلات النموذج الاوروبي، المقصود بمصطلح التحديث ومشتقاته هنا هو التغيير المتميز بشموله كل وجوه الحياة مقروناً بالاستدامة. قيادات الطرفين وناشطوهما هم، في معظمهم، مدينيون منبعهم الطبقي فئات البورجوازية الصغيرة والوسطى ممن تلقوا تعليماً غير تقليدي ويمتهنون مهناً من النوعية نفسها، غير انها لا تشكل رأس جبل جليد بل رأساً مقطوعاً يعوم في بحر من التقليدية. ما يحد من قدرة نخب الطرفين القيادية على ترجمة حداثة التكوين الى فعالية تحديثية شرطها الجوهري تأسيس نظام ديموقراطي غير قابل للارتداد، كونهما ينتميان إلى حضارة تجمدت منذ القرن الخامس عشر. وبينما تفاعلت دول آسيوية، وبعضها مسلم مثل تركيا وماليزيا وأندونيسيا، إيجابياً مع الحضارة الغربية التي استأنفت مسيرة الانسانية نحو الحرية البناءة، تولت عندنا مشاريع التحديث المعطوب خلال الخمسينات - الستينات سد الطريق أمام مثل هذا التفاعل. هكذا تطلب الامر هزيمة ساحقة في حزيران (يونيو) 67 لكي تقر الناصرية بأهمية الديموقراطية فتصدر بيان 30 آذار (مارس) 68 الذي بقي في حيز هذه الصفة، بينما شكلت وثيقة «المنطلقات النظرية» الصادرة عن المؤتمر القومي السادس لحزب البعث عام 1966 قطيعة معرفية حاسمة مع الاشارات الليبرالية القوية في مرحلة نشوئه. بقاء الفضاء الديموقراطي ملغى خلال فترة تجاوزت الثلاثة عقود تحت ظل أنظمة «المدنيين» هؤلاء، مصرياً وعراقياً وسورياً وأيضاً جزائرياً ويمنياً وليبياً، بتأثيراتهم المترامية على بقية اقطار المجال القومي، انتهى إلى تضييق الفارق بين مستوى وعي فئات التحديث والجمهور الشعبي حيث أحيل الجميع الى منطقة تحريم النشاط الطوعي العام. هذه المنطقة هي، بامتياز، منطقة العقل المقيد إلى الماضي العربي الاسلامي السحيق قبل ميلاد الديموقراطية ثقافةً او ممارسةً، والمعزز بالنمو المشوه والمحدود لفئات الطبقة الوسطى، قاطرة التحديث الطبقية، في ظل قبضة اقتصاد الدولة الخانق. لذلك فمحاولة اختراق هذا السقف لم تجد ما تقتات عليه سوى ما يجود به ميراث الماضي، فتشكلت الحركة الاسلامية سراً لتجد تربتها الخصبة في جمهور قابل للتجاوب مع أطروحاتها، بعد ان فقد ثقته في أطروحات المدنيين وتطبيقاتها العملية. إذا نظرنا الى الامر على هذا النحو يمكن القول إن الاسلاميين أبناء شرعيون للمدنيين تفوقوا على آبائهم كماً وكيفاً، يفوزون عليهم في الانتخابات المصرية وغير المصرية ويتوافرون على قدر أكبر كثيراً من التماسك التنظيمي. في الحالة المصرية التي تشغل الاذهان هذه الايام تبقى هذه الحقيقة قائمة بجزئياتها الثلاث على رغم ما يبدو من حيوية شارعية وسياسية ل «جبهة الانقاذ الوطني»، ومعها حقيقة التساوي في ضعف درجة التأهيل الديموقراطي لدى الطرفين. فالمجتمع المصري لم يغادر المرحلة التاريخية الماضية إلا قليلاً بحيث تشكل الديموقراطية، وليس الحرية المفتوحة التي أتى بها «الربيع العربي»، مطلباً حاضناً وتجذيرياً لنزوع بعض شرائح النخب القيادية الجدي بهذا الاتجاه. هذا هو جوهر المعضلة. ويجدر، لذلك، ان يكون معيار الانتماء الحقيقي لمشروع التحول الديموقراطي أو للتركيز على كيفية تهيئة المناخ الملائم لذلك. فإذا اعتبر المرء نفسه منتمياً الى الطرف المدني ولكن منطلقاً من رؤية الحاجة الى تنمية الديموقراطية على هذا النحو، بدلاً من افتراض وجودها كما تشير بعض تصرفات «جبهة الانقاذ الوطني»، فإنه يتجرأ على اقتراح صياغة استراتيجية ذات شقين. على المدى المتوسط للفترة الانتقالية يكون مركز ثقل الاستراتيجية حماية مكسب الحرية ضد الخطر الرئيسي وهو فكرة المستبد «العادل» والمهدي المنتظر الحية في ثقافة العناية السماوية الموروثة والمسيطرة لدى الجمهور العام. والنقطة الحاكمة هنا هي تجنب الدخول في معارك سياسية حامية وعالية الاهداف مع الاسلاميين قائمة على تقدير غير دقيق لتوازن القوى السياسي، عبر الرفض المطلق لتنازلات الرئاسة المصرية مثلاً. وبما أن الاسلاميين أقدر على الصراع الساخن بتلاحم صفوفهم، وهو أقوى من تلاحم المدنيين إلى الحد المليشيوي، فهذا سيؤدي إلى فوضى يضيق بها الجمهور العام خالطاً بين الحرية والديموقراطية، ما يستدعي التدخلات الانقلابية. وهذا النوع من التدخلات، أياً كان مصدره، ينشط عندما ينتفي الرادع المجتمعي. أما على المدى الأبعد، فالاستراتيجية ترتكز على تصور لكيفية تعويض أثر الافتقار الى نضوج الطبقة الوسطى والاصلاح الديني، العاملين الرئيسيين في نجاح التجربة الاوروبية لتأهيل الجمهور العام ديموقراطياً والمفقودين عندنا. في السياق العربي الاسلامي مؤدى هذا التأهيل هو تحرير الانسان من الولاءات التقليدية بتطوير ملكاته النقدية واستقلاليته كفرد يختار جماعته بحرية غير قطيعيه. وكما هو شأن مشاريع النهوض التنويري المصرية والمشرقية التي وئدت بعد نصف قرن تقريباً من استهلالها، تحت وطأة مشاريع التغيير الخمسينية المعطوبة، فالاصلاح التعليمي هو المدخل الرئيس. في النسيج المتكامل لاستراتيجية المدى الأبعد القائمة على مفهوم التنمية البشرية الشامل، يتعين إحلال تحديث النظام التعليمي في موقع الصدارة مدعوماً بتنشيط المجتمع المدني. وهذه ناحية لا تقل أهمية لأنها، في ظروف غياب حياة حزبية ناضجة ديموقراطياً، مجال للتدريب على مساءلة قيادات منتخبة يعزز مغزاها في التنمية الديموقراطية كون الانتماء اليها طوعياً وفردياً. إذا كانت الخبرة التاريخية الغربية في تأسيس الديموقراطية لا تفيدنا كثيراً نظراً للتباين الكبير في الظروف التاريخية، فدرسها المفيد حقاً هو أن الطريق اليها طويل ومرصوف بالانتكاسات والصراعات العنيفة الى حد الدموية حتى داخل معسكر قوى التغيير نفسها. ثورة عام 1789 الفرنسية أحرقت ما ينوف على العشر سنوات من عمر البلاد ومقدراتها ولكن في نهاية المطاف انتصرت العقلانية وأفكار مونتسكيو وفولتير على تطرف اليعاقبة والعسكرية البونابرتية، في الصراع مع قوى النظام الملكي الاقطاعي. وبينما لا يعني ذلك مروراً عربياً اسلامياً محتوماً بكل تضاريس الطريق الاوروبي هذه والى المدى نفسه، فإنه يعني خوض المعركة ضد الاسلاميين بنَفس هادئ مدروس يأخذ في الاعتبار حقيقة ان واقع الفراغ النهضوي التنويري الموروث منذ قرون يرجح ميزان القوى السياسي الراهن لمصلحتهم، ولكن من دون حتمية باقية، وإنما بمقدار وزمن تحددهما درجة الفهم لمصدر هذا الفراغ وكيفية إزالته. * كاتب سوداني