عانت مصر مراراً من موجات تطرف ديني اتبعها إرهاب سياسي، حدث ذلك خصوصاً في عقدين أساسيين: أولهما هو السبعينات، الذي انتهى باغتيال الرئيس أنور السادات في عيد نصر أكتوبر الذي اعتبره منبع شرعيته أغلب فترات حكمه، وذلك على أيدي تيارات جهادية وتكفيرية استغلت هامش العمل المتزايد أمامها بفعل تساهل الدولة معها، بعد أن كان السادات نفسه حاول توظيف التيارات الدينية، وفي قلبها الإخوان المسلمون، في تحييد الشارع السياسي المصري وقواه الحية المتمركزة حول الناصريين واليساريين، الذين كانوا يمثلون عبئاً على توجهاته السياسية والاقتصادية الجديدة، التي رآها الأفضل لمستقبل مصر، ولكنها كانت في المقابل، ومن وجهة نظر تلك القوى، تمثل تفكيكاً لمشروع الدولة الناصرية بأبعاده الأساسية الاجتماعية والاقتصادية؛ ناهيك بالتباين العميق بين الطرفين في أنماط التوجه الخارجي، وفي أشكال التحالفات الإقليمية، والانحيازات في العلاقات الدولية. وثاني العقدين هو عقد التسعينات الذي عاشته مصر على وقع عنف سياسي متواصل، وحوادث إرهاب متكررة، لم تتراجع إلا بعد مذبحة الأقصر في كانون الأول (ديسمبر) عام 1997، وبفعلها حدث نوع من الاستقطاب الشديد الثقافي والديني أدى إلى انغلاق أفق التطور السياسي للنظام المصري، ووقع المصريون في فخ الاختيار، الذي تم الترويج له باعتباره قدراً، بين طرفي ثنائية «السلطوية - الإسلاموية» أو «الاستبداد - التطرف»، فإما الرضا بنظم حكم متسلطة، أو الخضوع لتطرف سياسي يدعي الإسلامية. لم يكن ثمة حوار أو جدل بل ردود أفعال عنيفة متبادلة، تقوم على الإنكار والإقصاء. عملياً كانت السلطة المستبدة هي الأقدر على الإقصاء، ونظرياً كانت التيارات المتطرفة هي الأعنف في الإقصاء، إذ تجاوزت إنكار النظام الحاكم إلى تكفير المجتمع المحكوم، ولم يكن ثمة قيد عليها سوى غياب التمكين. مع عاصفة الربيع العربي، كان مفترضاً تفكيك هذه الثنائية الصلبة، إذ سقطت النظم الأكثر استبداداً، وثمة نظم أخرى في الطريق. وفي المقابل كان مفترضاً أن تدخل السلفية الجهادية طور الذبول، إما لأن كتلتها الأساسية كانت قد انزاحت، قبل هبوب العاصفة، إلى خارج المجتمعات العربية لتلعب أدواراً أوسع بدعوى «عالمية الجهاد»، أو لأن بعض أبرز مكوناتها من قبيل الجماعة الإسلامية، دخل إلى حلبة السياسة، التي طالما دانتها بشدة... وطالما فتحت أبواب السياسة أمامها بعد طول إقصاء، كان واجباً أن تزداد اعتدالاً، وانخراطاً في النظام السياسي القائم. ولا يعني ذلك الانخراط زوال التناقض بين التيارين الديني والمدني، بل يعني فقط قدرة أكبر على التعايش بينهما، إذ لم يعد التناقض مجمداً في ثلاجة التاريخ، وإنما دخل طور الممارسة العملية بعد زوال الخطوط الفاصلة بين ما هو داخل الشرعية وخارجها، فصار الجميع يلعبون في الفضاء نفسه، بالقوانين نفسها، وأمام الحكم ذاته، وهو هنا الجمهور العربي الذي سيدور الصراع حوله وعليه، وإن بأدوات جديدة: ثقافية وإيديولوجية وليس بالأدوات العتيقة العنيفة، والمسلحة.