إحدى السمات الأساسية التي حكمت الواقع العربي في النصف الثاني للقرن العشرين تمثلت فى الخضوع للاستقطاب المزمن بين طرفي ثنائية صلبة (سلطوية-إسلاموية) أو (استبداد-تطرف)، فإما الرضا بنظم حاكمة متسلطة، وإما الخضوع لإسلام سياسي متشدد. اليوم، وبقوة الربيع العربي، تبدو هذه الثنائية الصلبة في طور التفكيك. لقد سقطت النظم الأكثر استبداداً، وثمة نظم أخرى في الطريق. وفى المقابل، يبدو أن التيار السلفى الجهادى في طريقه هو الآخر إلى الذبول، إما لأن كتلته الأساسية قد انزاحت إلى خارج المجتمعات العربية، إلى أفغانستان وبؤر أخرى، بدعوى «عالمية الجهاد»، اللهم سوى امتدادات قليلة، وإما لأن بعض مكوناته، من قبيل «الجماعة الإسلامية» الأكثر تكفيراً لنظام الحكم ونهجاً للعنف في مصر، قد دخلت إلى حلبة السياسة، وهي التي طالما أدانتها بشدة. ولكن هل يعني سقوط هذين المكونين الصلدين، اليمين الديني الأكثر تطرفاً ونظم الحكم الأكثر استبدادية، أن المجتمعات العربية مشرفة على حقبة من الهدوء كنتيجة زوال التناقض الحاد؟ نتصور أن الأمر على العكس، فهي ربما تكون مشرفة على مرحلة من الصراع أكثر عمقاً من المرحلة الماضية، ذلك أن حجم التناقض في المرحلة السابقة كان أكثر اتساعاً، وأعمق جذوراً، ولكن التناقض نفسه كان معطلاً، لأن ثنائياته كانت مجمدة فى ثلاجة التاريخ. كانت ردود الفعل المتبادلة عشوائية (من التيارات الدينية المتطرفة إلى السلطة المستبدة والعكس)، إذ تنبع وتصب من فضاءين مختلفين، أحدهما يمثل الشرعية، وهي شرعية أمر واقع (تغلُّب لا اختيار)، والآخر يمثل نقيضها. وهنا لم يكن ثمة حوار أو جدل، بل ردود أفعال عنيفة متبادلة، تقوم على الإنكار والإقصاء. عملياً، كانت السلطات المستبدة هي الأقدر على الإقصاء، ونظرياً كانت التيارات المتطرفة هى الأعنف فى الإقصاء، إذ تتجاوز إنكار نظم الحكم إلى تكفير المجتمعات المحكومة، ولم يكن ثمة قيد على تلك النزعة سوى غياب التمكين. اليوم يبدو التناقض أقل عمقاً بين طرفي الثنائية، ولكن ثمة في المقابل فرصة كبيرة لانطلاق الجدل بينهما، بعد زوال الخطوط الفاصلة بين ما هو داخل الشرعية وخارجها، إذ صار الجميع يلعبون في الفضاء نفسه، بالقوانين نفسها، وأمام الحكم ذاته، وهو هنا الجمهور العربي الذي سيدور الصراع حوله وعليه. سوف يحتدم الجدل إذن، وإن بأدوات جديدة: ثقافية وأيديولوجية وليس بالأدوات العتيقة، العنيفة والمسلحة، وسوف يكون الجمهور العربي حاضراً هذه المرة لا غائباً ولا مغيباً، لأنه ثار، وأخذ الأمر بيده ربما للمرة الأولى، ومن الصعوبة إرجاعه إلى ثكنات السلبية والاغتراب واللامبالاة. والبادي هنا أننا سنكون عملية فرز تاريخي كبرى تشتمل على عمليات فرعية صغرى من الدمج والحذف، الاستيعاب والاستبعاد، تدمج التيارات الإسلامية الأكثر عقلانية وقابلية للتجدد والحوار في جسد المجتمعات العربية، وفى الوقت نفسه حصار التيارات الأكثر تطرفاً والأقل قدرة على التكيف مع متطلبات المرحلة. ستجري هذه العملية المعقدة لا من خلال حوار نظري في حجرات مغلقة، بل من خلال صراع سياسي واقعى فى أفق مفتوح بين النخب السياسية فى الحكومة والمعارضة، وبين هؤلاء والنخبة الفكرية فى وسائل الإعلام المفتوح، التي ستنشغل طويلاً بوقائعه. وفي كل الأحوال، سيكون الجمهور شاهداً، سوف يسمع ويتناقش. كما أنه، ومن خلال التعاطي العملي مع القرارات والتشريعات، سوف يتفاعل ويتأثر ويراجع. ربما تخلى كثيرون عن بعض قناعاتهم القديمة، وصاغوا أخرى أكثر تحرراً، أو حتى أكثر تشدداً. ولكن المؤكد أنهم جميعاً سيكونون قادرين على اختبارها في الواقع، وعلى إعادة التفكير في نتائجها، عبر آليات التغذية الاسترجاعية الكاشفة. سوف يتشاجرون كثيراً وطويلاً ويتفقون قليلاً، سيعلو الصياح بالرفض أو التأييد، ولكن الجميع سوف يدخلون ورشة عمل ثقافية مفتوحة، وسيبذلون جهداً مضنياً للفهم، وعندها سيتجهون نحو التوافق. ستنتاب الجميع لحظات شك وشوق إلى اليقين... سوف يتمزق الناس حول فهم الدين عندما يستمعون إلى تفسيرات عدة، ويدركون أن ثمة فهماً مختلفاً للإسلام عن ذلك الذي عرفوه في الزوايا الصغيرة، والكتب الصفراء... ستزيغ عقول كثيرين وعيونهم، وتخور أرواحهم إزاء صعوبة الحقيقة واستعصائها على ذلك الإدراك السهل البسيط قبل أن ينتصر الفهم المعتدل والعصرى على تخرصات أئمة الزوايا الصغيرة وجمهور الكتب الصفراء. وفي كل الأحوال، سوف تبقى حركة الواقع، بكل قسوتها، حكماً على الجميع، تكذب من هو كاذب، وتنتصر لمن يستحق من الرجال والعقول والأفكار... سوف تبشر وتنفر... تصدم وتدفع... ولكنها فى النهاية سوف تلهم وتعلم... تضبط حركة الكثيرين وتوجه مساراتهم. ربما انصاعت رموز التيار الإسلامي الغالب إلى الحقيقة، وعندها سيكون التغيير أسرع وأسلس، ويظل لهم، بأسمائهم وأحزابهم، حضورهم فيه. وربما رفض هؤلاء الحقيقة، غياباً عن حركة الزمن، وابتعاداً عن سير التاريخ، وعندها سيسقطون من الحساب... سيتجاوزهم الواقع وينساهم الناس. وهنا تستعيد الكتلة العربية -ولو تدريجياً- تجانسها، وتتجاوز حال الاستقطاب المزمن الكامن فيها... سوف تفقد الكتلة السلفية حضورها المعطِّل لحركة العصر، وتتحول إلى وجود نحيف أقرب إلى التيارات العنصرية أو اليمين القومي فى المجتمعات الأوروبية، وجود يرمز إلى الماضي، ولكنه غير قادر على التحكم بالراهن أو الآتي، وجود لا يعوق الكتلة العربية الحديثة عن التدفق في مجرى التاريخ، خروجاً على حال الاستعصاء، واستئنافاً لمسار نهضوي منكود منذ عقود، إن لم يكن منذ قرون. * كاتب مصري.