العزلة التي تعيشها إسرائيل هذه الأيام بسبب قرارات عقابية «غبية» تتصل ببناء آلاف الوحدات الاستيطانية في الضفة الغربية، من شأنها أن ترفع مكانة فلسطين وتحولها إلى دولة كاملة العضوية في الأممالمتحدة. ولولا النضال الفلسطيني المتواصل، وفي الوقت نفسه الانكشاف الإسرائيلي العنصري الواضح أمام العالم، واللئيم رفضاً لسلام مقبول، كل هذا جعل من حلم الارتقاء بالوضع الفلسطيني في الأممالمتحدة إلى دولة مراقب، حقيقة ثابتة. الحديث هنا لا يجري عن قرار أممي اتخذ ضمن أجندة الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة، وإنما القرار جاء على خلفية مواصلة الفلسطينيين حقهم في التطور الدولاني، ولأن إسرائيل ظلت «وفية» لسياسة تكريس الاستيطان وتعميقه، ورفض المفاوضات إلا وفق شروطها. نحن أمام انتصار حقيقي وتطور يفضي فعلاً إلى زيادة عزلة إسرائيل، خصوصاً أننا نلاحظ كيفية التعامل الإسرائيلي الرسمي مع الدولة الفلسطينية، فلم يكن الموقف يسعى الى سياسة الاحتواء وإعادة إطلاق العملية التفاوضية، إنما أخذ منحى العقاب القاسي المتصل بإطلاق أجندة تستهدف قتل الدولة الفلسطينية. كيف هذا؟ أولاً: لا يمكن إغفال أن إسرائيل ظلت تراوغ كثيراً مع المجتمع الدولي ولا تحترم قراراته، وأصدر ساستها قرارات كثيرة تتمسك بحق إسرائيل في تأكيد مصلحتها على حساب كل القرارات الدولية، ولا يعتقد أن المؤشرات تفيد بأن إسرائيل ماضية في التهدئة المتعلقة بالعودة إلى تفاوض يؤدي في النهاية إلى قبول دولة مستقلة كاملة العضوية في الأممالمتحدة. ثانياً: من أيام بن غوريون إلى يوم نتانياهو، لن نعثر على أجندة واضحة تثبت نية إسرائيل في الوصول إلى سلام حقيقي، وكان الهدف في الماضي يقضي بإفراغ فلسطين من أهلها، لكن بعد فشله، تحول الهدف إلى الابتلاع التدريجي للضفة الغربية، واستعداد إسرائيل للتفاوض وليس في جيبها مشروع حقيقي تقدمه للفلسطينيين. ثالثاً: اعتبر نتانياهو أن التوجه الفلسطيني أحادي الجانب إلى الأممالمتحدة لطلب دولة غير عضو، ينبغي أن يقابل بلكمات قوية، لا تستهدف ضرب الفلسطينيين فحسب، وإنما أيضاً توجيه لكمات الى كل الدول التي قررت التصويت لمصلحة الدولة، لذلك كان رد الحكومة الإسرائيلية سريعاً وحاسماً باستكمال المشروع الاستيطاني. رابعاً: أراد نتانياهو أن يقول للجميع، إن الدولة الفلسطينية، حتى ولو قامت نظرياً وتغيرت الرسائل الرسمية والتعاملات الثنائية والجماعية، فإنها ستموت حتماً على الأرض، لذلك لم يكن القرار يتصل بزيادة الاستيطان، وإنما ارتبط ببناء حوالي 3400 وحدة استيطانية في منطقة مهمة وحساسة، هي المنطقة المسماة «E1»، التي تفصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها، وتؤدي إلى عزل مدينة القدس بالكامل عن محيطها الفلسطيني. في إطار السعار الإسرائيلي إزاء الهروب من السلام بتوجيه ضربة قوية إلى مشروع الدولة، هنا بالضبط ينبغي الاستفادة جيداً من هذا الوضع ومن هذه اللحظة المهمة، ذلك أن الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، اتخذ موقفاً إيجابياً يحسب لمصلحة الفلسطينيين. وبسبب قرار نتانياهو «المتخلف»، استدعت دول، مثل فرنسا وبريطانيا والسويد وأسبانيا، سفراء إسرائيل لديها، للتعبير عن مواقفها المنددة بالخطوة التصعيدية الإسرائيلية التي لم تستجب لموقف وزير الخارجية البريطاني الذي دعا الإسرائيليين والفلسطينيين إلى التفاوض مجدداً، وعدم اتخاذ خطوات من شأنها إعاقة عملية السلام. لقد أكد نتانياهو بكل قوة، أنه لا يرغب في تحقيق السلام، وأن خارطة سلامه تعني أساساً استكمال المخططات الاستيطانية وخلق وقائع جغرافية تورط الضفة الغربية ومعها القدسالشرقية، وتؤدي إلى وضع الفلسطينيين في تجمعات تصعب عليهم ترسيم دولتهم الجديدة. إن علينا الاستفادة من هذا «الحرد» الأوروبي، ومعه العتاب الأميركي الذي وإن ظل يتلاعب بالمواقف، إلا أنه يشعر أيضاً بأن إسرائيل لا يهمها السلام ولا المجتمع الدولي، فما يهمها أكثر هو بقاؤها عند مستوى التحكم بالمصير الفلسطيني، كما حال السنوات السابقة. والحقيقة أن هناك مؤشرات جديدة على التحول الأوروبي في علاقاته مع إسرائيل، فهم في الأساس لا يتعاملون بمنطق الصح والخطأ، وإنما يتعاملون بحسابات المصالح، الربح والخسارة، ويدركون أن البقاء في صف إسرائيل، سيعني خسارة مصالحهم. أيضاً علينا الاستفادة من القوة الجديدة التي أصبحنا نتنعم بها، كما علينا مغادرة أنواع «التفكير» التي قد تؤدي بنا إلى الإطالة في استخدام حقوقنا، خصوصاً أن إسرائيل تقابلنا بردٍ قاسٍ جداً، ومن غير المتوقع أن يكون هناك رد أقسى، ولذلك من المهم تقديم شكوى سريعة إلى المحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل وأزلامها، استكمالاً للمشوار النضالي وعقاباً لها هي الأخرى على مثل هذا التصرف «الأحمق». وفي هذه الأوقات بالذات، من المهم تسيير التظاهرات الحاشدة واستدعاء مختلف أنواع الإعلام المحلي والدولي، لأن الإعلام شريك مهم في صناعة الحدث، وهو الكاشف عنه، ثم إن مثل هذه التظاهرات ستقلق دولاً كثيرة، وستزيد من السخط الدولي والأوروبي على إسرائيل. ونكرر في هذا السياق، الدعوة الملحة والمستعجلة من أجل إعادة اللحمة بين أبناء الشعب الفلسطيني الواحد، والتقريب الوجداني والتلاحمي بين شطري الوطن، لاستكمال معركة النضال ضد المحتل. هكذا علينا أن «نشتغل» وأن نستفيد من ضعف إسرائيل الحالي، لأنها كلما زادت عزلة، بدأنا نقترب من الإجماع الدولي على الدولة الفلسطينية الكاملة، ففي نهاية الأمر لا يمكن القول إن الصراع مع الاحتلال مرتبط بجولة، بل إنها جولات بحاجة إلى صبر ووقت.