يعيد الاستفتاء حالياً على مسودة الدستور المصري الجديد إلى الأذهان أجواء استفتاء آذار (مارس) 2011، ليس فقط في النتائج السلبية التي ترتبت عليه، وإنما في عملية الشحن والتوظيف الديني السلبي لخدمة أغراض سياسية. فقبل سنتين، مُهد لهذا الانقسام بأن تبدأ عملية التحول الديموقراطي بانتخابات نيابية، ثم رئاسية، وتنتهي بوضع الدستور. فالأغلبية التي صوتت في ذلك الوقت على إلغاء دستور 1971 لم تصوت على المبدأ في حد ذاته، وإنما انساقت في معظمها وراء التحريض الديني بأن التصويت بغير «نعم» سيكون ضد العقيدة، كما صورتها ماكينة الإسلاميين من على منابر المساجد والفضائيات الدينية، ناهيك عن أن الذين صوتوا ب «لا» لم يكونوا متمسكين بالدستور القديم وإنما يريدون دستوراً جديداً بعد الثورة مباشرة. لم يكن التصويت ب «لا» موجهاً ضد الدين، كما صوروه، وإنما كان هو منطق الصواب في كونه سيجعل المرحلة الانتقالية تبدأ بالدستور قبل إجراء أي انتخابات، حتى لا تأتي الأغلبية بدستور على هواها. وقد ينجح الحزب الحاكم في تمرير الدستور بالأغلبية، ولكن سنكون هنا أمام قضيتين مهمتين، الأولى أن الدين نفسه، الذي يحث على الصدق ومكارم الأخلاق والقيم النبيلة، تم استخدامه بطريق مضللة، فمعارضة تكوين لجنة وضع الدستور نبعت منذ البداية من منطلق أنها لم تنتصر لمفهوم العدالة وانتصرت لتيار سياسي ديني على حساب المجموع، بمعنى أنه كان هناك افتئات على حقوق الكثيرين، فالقضية لم تكن لها علاقة بالدين بقدر ما أنها استخدمت الدين كشعار لتعمل ضد مبادئه التي تنتصر لتحقيق العدالة. ثانياً: أن المجتمع المصري، كغيره من المجتمعات العربية، مازال ضعيفاً أمام المتغير الشكلي للدين وليس لجوهره، لذلك من السهل أن يتأثر بالشائعات التي يروجها أئمة المساجد ونجوم الفضائيات الدينية، فتذهب أصواتهم نتيجة ما يقال باستغلال مناسبة وتوقيت متكرر كل أسبوع، ك «خطبة الجمعة»، بشكل فيه توجيه من دون اعتراض من أحد على ما يقوله هذا الخطيب أو الداعية. فهذا يدلل على أن أصوات الناخبين ما زالت غير معبرة عن إرادة حرة وفهم حقيقي للواقع، وهو ما يراهن عليه الإسلاميون في كسب أنصارهم حول قضية ما، مثل قضية الاستفتاء على الدستور أو غيرها. ففي حال الموافقة، سيتم إقرار الدستور مهما كان الخلل الموجود فيه، من حيث قضايا الحريات والحقوق التي سيتم تحديدها وفقاً لقرارات الحاكم أو هيئات غير نزيهة. ونصبح هنا أمام دستور يحمل خللاً في قضية الحقوق وتحقيق مبدأ العدالة بتخليه عن فكرة المساواة أو الحرية بمعناها المجرد من دون ربطها بأي قيد. قد يكون المخرج هو التوعية، ولكن طريقها وسط الأغلبية الصامتة بات صعباً بعدما أصبح توجيه نقد أو نصيحة مخالفة للإسلاميين، يؤدي إلى اتهام بأنك «علماني وليبرالي»، أي «كافر»، سواء تم التصريح بها أو لم يتم. وندخل هنا في الإشكالية الثالثة في عملية الانتقاص والتقليل من شأن القوى المختلفة معهم في السياسة وتوظيف الدين، بتصويرهم وكأنهم أعداء الدين وهو أمر يتناقض مع الواقع، فالعلمانيون والليبراليون يمثلون جزءاً مهماً من الطبقة الوسطى المصرية المتدينة بالطريقة المعتدلة المألوفة عن المصريين، وهم في معظمهم يقيمون شعائر الدين، وفهمهم له نابع من فهم عصري ينتصر لجوهره في قيمه وليس للشكلانية التي يغرق فيها المتأسلمون، وبالتالي نحن أمام قضية تشويه ثالثة يقوم بها هؤلاء ضد المنتمين إلى الطبقة الوسطى المصرية، بتصويرهم على أنهم يحاربون الإسلام. واذا كانت محصلة الخلافات والطريقة التي جاءت بها الجمعية التأسيسية تلقي بالكثير من علامات الاستفهام، فهل ما أنتجته هو دستور يعبر عن كل المصريين، أم أنه دستور أصحاب الفتاوى الدينية التي جيشت البسطاء للتصويت له؟ * كاتب مصري