من النادر أن يمر يوم إلا ونقرأ في الصحف عن مثالب العمّال والعمالة، مثل: العامل الفلاني اختلس أموالاً من كفيله، وآخر هرب من كفيله، والعاملة المنزلية الفلانية سرقت مخدومها. وفي الوقت نفسه فمن النادر جداً أن نقرأ كتابة تتضمن إنصافاً لحقوق العمّال والعمالة. لو أردنا الوقوف على حقيقة الظلم الذي يقع على الكثير من العمال، فما علينا إلا سؤال أي مكتب عمل في المملكة عن عدد القضايا التي يرفعها العمال على أصحاب العمل. فعلى سبيل المثال: عاملة منزلية لم تقبض راتبها لأشهر عدة، وبعضهم يتأخر عن دفع رواتب عماله لمدة طويلة؛ ثم للتهرب من دفع حقوقهم يعلن إفلاسه. والكثير من القضايا تتمحور حول مكافأة نهاية الخدمة، التي يتهرب منها الكثير من أصحاب العمل. من المعتقد أن من أهم أسباب هذه المشكلات تلك هو أن معظم الشركات المتوسطة والصغيرة لا تتقيد بعمل «عقود عمل» لعمالها؛ بل إن بعض الشركات الكبيرة تتنصل من عقود العمل، بواسطة عمل «عقود عمل» موقتة لمدة ثلاثة أشهر فقط، تجدد كل ثلاثة أشهر. ولو تقيد أصحاب العمل بنظام العمل والعمال الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/21 وتاريخ 6/9/1389، لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه. ففي هذا النظام من النصوص والفقرات والمواد والتفصيلات الفرعية ما يمكّن العامل من الوصول إلى حقوقه كاملة، حتى وقبل أن تنضم المملكة إلى منظمة التجارة العالمية. ولنأخذ على سبيل المثال تعريف الأجر في المادة (7) منه: «الأجر: هو كل ما يُعطى للعامل في مقابل عمله بموجب عقد عمل مكتوب أو غير مكتوب مهما كان نوع الأجر...وسواء كان كله أم بعضه من عمولات أم من الهبة إذا جرى العرف بدفعها. وبصورة عامة يشمل الأجر جميع الزيادات والعلاوات أياً كان نوعها، بما في ذلك تعويض غلاء المعيشة وتعويض أعباء العائلة. وكل منحة تعطى للعامل علاوة على المرتب، وما يصرف له جزاء أمانته، أو في مقابل زيادة أعبائه العائلية وما شابه ذلك، إذا كانت هذه المبالغ مقررة في عقود العمل أو في نظام العمل الأساسي، أو جرى العرف بمنحها، حتى أصبح العمال يعتبرونها جزءاً من الأجر لا تبرعاً». من المستغرب أن يكون هناك عشرات الآلاف من قضايا حقوق العمال في بلد يحكم بشرع الله. ومن المستغرب أن يقبل أصحاب العمل بتوظيف عمال من دون كتابة «عقود عمل» لهم؛ لأن العقد هو شريطة المتعاقدين، وأطول آية نزلت في القرآن الكريم آية الدَّين. من حق العامل في الشرع الأجر المناسب لقدراته ومواهبه، لقوله تعالى: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم)، أي لا تنقصوا أموالهم. وللعامل الحق في أجر عادل ومحترم يناسب ما يؤديه من جهد وعمل من دون مماطلة، ولا تأخير، أو نقصان. وأوجب الرسول صلى الله عليه وسلم، بسرعة دفع الأجر للعامل بعد الانتهاء من عمله مباشرة في قوله: «أعطوا الأجير أجره، قبل أن يجف عرقه». ويروي البخاري أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره». وللعامل الحق في الحصول على الحقوق المشترطة لقوله، صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم». وللعامل أيضاً الحق في زيادة الراتب أو الأجرة، خصوصاً بعد مرور زمن على بقائه على أجر واحد لأكثر من عام أو عامين. فطلب الزيادة في الأجر هو حق مكتسب. وأنظمة وقوانين العمل والعمال في معظم دول العالم تمنح العاملين فرصة لتحسين عملهم لزيادة دخولهم. إضافة إلى أن أنظمة منظمة التجارة العالمية أوردت في بعض بنودها أن من حق العامل أو الموظف زيادة سنوية. تنظيم العلاقات بين الناس في الإسلام أمر حيوي وأساسي. إذ لم يترك الإسلام تنظيم هذه العلاقات لقانون الغاب، فيستحوذ القوي حقوق الضعيف، فوضع المبادئ العامة والأسس التي تقوم عليها هذه العلاقات، ثم ترك التفاضل لإرادة الطرفين بحسب ما يتفقان عليه، ونجد هذه المبادئ والأسس مبثوثة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة منها قوله تعالى: (يَآ أَيُّهَا الذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالعُقُودِ). وفي قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأمركم، أَن تُوَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)، وإلى غيرها من الآيات المحكمة. ومن السنة النبوية: «لا ضرر ولا ضرار»، و«الغنم بالغرم» وغيرهما من الأحاديث التي تنظم العلاقة بين المتعاقدين. أجر العامل من أهم الأمور في حياته، لأن معيشته، هو ومن يعول، معتمدة على الأجر الذي يتقاضاه، وأداء الأجر للعامل حق شرعي ثابت له. واهتم الإسلام بقضية الأجور اهتماماً بالغاً، لأنها متصلة اتصالاً وثيقاً بقضية العدل والظلم في المجتمع، فينبغي أن تكون أجرة العامل معلومة، علماً من شأنه أن ينفي الجهالة، ويقضي على النزاع والاختلاف، حتى يتمكن العامل من استيفاء أجره في الوقت المناسب من غير مماطلة. فعن أبي سعيد، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «نهى عن استئجار الأجير حتى يتبين أجره». ووردت أحاديث عن النبي، صلى الله عليه وسلم، بصيغ مختلفة، كلها تؤكد هذه الحقيقة، ومنها نستشف مدى اهتمام الإسلام بأجرة العامل. ومن المعلوم أن تسمية الأجر تحفظ حق العامل فتطمئن نفسه. وإذا لم يتفق المتعاقدان على شيء محدد من الأجر استحق العامل أجر المثل، وهو الأجر المكافئ لجهده ومنفعته، يقدره الخبراء العارفون لمستوى المعيشة وأنماط العمل وأجور العمال. يبقى أن نذكر بما ورد في الحديث الشريف: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دِينَارٌ أَوْ دِرْهَمٌ قُضِيَ مِنْ حَسَنَاتِهِ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ». وروى أبو هريرة، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «مطْلُ الغني ظلم، وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع». فعلى مَن عليه دينٌ أن يبادر بوفاء ما في ذمته من حقوق الناس قبل أن يفاجئه الأجل وهو معلق بديونه. * باحث في الشؤون الإسلامية.