لا يزال سيرك فلسطين يفاجئ كل من يرى عروضه التي يقدمها لاعبون فلسطينيون، وذلك على رغم مرور ست سنوات على انطلاقة الفرقة التي تجول بعرضها الجديد في بلجيكا والتي لا يخفي مؤسسها أن «بعض الجنون» كان ضرورياً ليحقق حلم طفولته. واختار السيرك أن يقدم أحدث عروضه خلال جولة في ست مدن بلجيكية، كانت بروكسيل أولى محطاتها حيث قدمت ثلاثة عروض بيعت كل بطاقاتها، وتختتم بعد غد في مدينة نامور. ويقول شادي زمرد الذي أسس الفرقة ومدرسة للسيرك، إن الجمهور يقابل تجربتهم بدهشة. ويضيف: «دائماً تبدو لهم مغامرة غريبة، وكأنهم أمام شخص قادم من الفضاء». ويقر الشاب الثلاثيني بأنه كان لا بد من «بعض الجنون» لينطلق بمشروعه هذا، ويؤكد أنه «إذا بقيت في فلسطين تخضع للأمر الواقع فسيصعب إيجاد أمل للاستمرار في الحياة». وأمام جمهور ملأ مقاعد أكبر مسارح مركز «صالات سكاربيك» الفني، قدم 5 شبان العرض الجديد، من بينهم فادي زمرد الشقيق الأصغر لمؤسس السيرك والذي تخرج هذه السنة في أكاديمية مختصة بفنون السيرك في إيطاليا. فادي اختص باللعب على «العمود الصيني» (عارضة معدنية طويلة ومرنة تنصب في شكل عمودي)، وكان محط إعجاب الجمهور وهو يتسلقه ويهبط منه عبر سقطات خاطفة، ويؤدي عليه سلسلة من الحركات الاستعراضية الخطرة. ويقول لاعب السيرك الفلسطيني، صاحب البنية الجسدية القوية، إن عمله هذا يثير استغراب الجمهور الغربي، لكن مشكلته «أكبر» مع جمهور محلي يواجه بأسئلة من قبيل «ماذا تعني بلاعب سيرك؟ هل تلعب مع الأسود؟»، ويضيف بسخرية لا تخفي امتعاضه: «أكثر ما أسمعه أن هذا لا يطعم خبزاً». يمزج العرض الجديد فنوناً عدة، منها المسرح والإيماء والفقرات البهلوانية والاستعراضية، لكنه عبر كل هذا يقدم حكاية موضوعها هو السلطة. فهناك بضع سترات مختلفة تهبط على المسرح، يتعارك على امتلاكها مجموعة شبان، بعدما كان عراكهم سابقاً حول ما يسدّون به جوعهم، ثم لا يلبث أن يصير من فاز بالسترة العسكرية هو صاحب القوة التي تروّض الآخرين، فلا يملكون سوى الاستجابة. وعلى امتداد هذا الاستعراض كان الجمهور يتفاعل بالتصفيق الحار وبالضحك. وعندما أراد أصحاب العرض تضمينه فقرة استعراضية تندرج في نسيج الحكاية، اختاروا الدبكة الشعبية التي يؤدونها مع دمى كبيرة على إيقاع موسيقى صادحة. وعبر إعطاء العرض عنوان «كل صبر» أراد صانعوه مواجهة الخيار الوحيد الذي يوضع أمام الفلسطينيين، وهو مواصلة ابتلاع الصبر، إضافة إلى إحالة العنوان باللهجة الدارجة على أكل فاكهة «الصبّار» بشوكها وحلاوتها. وعلى رغم كون السيرك ثقافة جديدة على أعضاء الفرقة، فهم يعملون وفق «معايير احترافية»، كما يقول علاء الجيوسي تقني السلامة الذي درس هذا الاختصاص. ويضيف: «هنا كما في فلسطين لا نعمل من دون عقود تأمين على لاعبي السيرك». وكان رهان «سيرك فلسطين» أبعد من مجرد الخروج عن المألوف، ولا يزال مؤسسه شادي يروي القصة من محطتها الأولى، عندما كان السيرك هو الحلم الذي جعله يغادر القدس إلى مدينة رام الله سعياً لتحقيقه عام 2006. وهناك التقى الناشطة البلجيكية جسيكا ديفيلغرا التي تحمست للفكرة، وأسسا معاً أول مدرسة للسيرك، استقرت أخيراً في مبنى قديم أعيد ترميمه في بلدة بيرزيت قرب رام الله. بدأت المدرسة مع خمسة طلاب، لكن العدد وصل الآن إلى حوالى 200، بعضهم يأتي إليها من المخيمات وحتى من القدس، وهي تشهد إقبالاً متزايداً يجعلها غير قادرة على قبول الجميع. ويؤكد شادي أن حلمه لا يقف عند هذا الحد، بل «نريد أن نؤسس أول أكاديمية مختصة بفنون السيرك في الشرق الأوسط». ويقوم بمهمة التدريب لاعبو السيرك الفلسطينيون إضافة إلى آخرين أجانب متحمسين للتجربة. ويقول مدرب كولومبي في فيلم وثائقي عرض عن مسيرة السيرك «كل ما كنا نسمعه عن فلسطين هو الحرب». وتُعرض نسخ من هذا الفيلم الوثائقي وتذكارات تحمل شعار السيرك للبيع لتساعد في التمويل، وهناك مبادرات كالتي أطلقها أصدقاء السيرك في بلجيكا عبر بيع قصص للأطفال تدور حوله باللغة الهولندية.