يتوقع الكاتب المصري محمد إبراهيم طه (1963) تضييقاً على الإبداع في مصر في السنوات المقبلة يصل إلى درجة الحجر، عبر «قراءات متربصة وضيقة الأفق للنصوص الأدبية وملاحقات قضائية لا تنتهي لأدباء ومبدعين». ويرى صاحب «توتة مائلة على نهر» و «العابرون» فشلاً مصرياً في تقديم أدب ما بعد نجيب محفوظ إلى العالم، «نتيجة التخبط الشديد في مجال النشر بقطاعيه الحكومي والخاص». حصد طه جائزة الدولة التشجيعية في الآداب عام 2001 عن مجموعته القصصية «توتة مائلة على نهر»، وجائزة الشارقة للرواية عام 2000 عن روايته «سقوط النوار»، وصدرت له ثلاث روايات وثلاث مجموعات قصصية، آخرها «امرأة أسفل الشرفة»، سلسلة «كتابات جديدة»، الهيئة المصرية العامة للكتاب. ما مبعث ذلك الحزن الشفيف والإحساس بالتعاسة والألم المسيطر على قصص «امرأة أسفل الشرفة»؟ - غالباً هو البحث المعذب والركض المضني خلف المرأة الحلم أو المرأة المأمولة التي تغيب تماماً عن الواقع وتوجد بكامل تفاصيلها في عالم الحلم. ثمة صراع يتجسد عبر قصص المجموعة بين امرأة الواقع وامرأة الحلم التي نجدها موجودة في قصة «ريم تعود إلى البحر»، والتي تلوح وتختفي في قصص أخرى مثل قصة «امراة أسفل الشرفة». هي امرأة غير ممسوكة، لكنها تعيش بحضور تام في ذهن السارد. في المقابل، تبدو المرأة الواقع - على رغم غيابها أو السكوت عنها - جاثمة تماماً على السرد في قصص مثل «مشوار قصير». في قصص المجموعة نفسها تتصارع الحياة الحلم مع الحياة الواقع، ماذا يعني ذلك؟ - هذا الصراع هو المبرر الذي يدفع بالسرد في قصص هذه المجموعة علها تكتمل، فالقارئ يواصل القراءة، على أمل أن يصل إلى هذه «الحياة الحلم»، وبالتالي إلى «المرأة الحلم». لكن «المرأة الواقع»، كما رصدتها قصص المجموعة تبدو أكثر جمالاً وبهاءً من المرأة الحلم التي لا وجود لها إلا في مخيلة الكاتب؟ - الحلم أجمل بكثير من الواقع، كذلك المرأة الحلم هي أجمل بكثير من نظيرتها في الواقع، لكن هذا لا ينفي الجمال عن المرأة الواقع. بين الذات والعالم الخارجي مسافة قد تطول أو تقصر، أين تقف بمجموعتك القصصية الأخيرة من هذه المسافة؟ - لا أتماهى تماماً مع العالم الخارجي ولا أصل إلى درجة الاعتكاف أو الانكفاء على الذات في شكل يبدو فيه العالم الخارجي مبتوراً تماماً في «امرأة أسفل الشرفة» أقف في منتصف المسافة بين الذات بكل ما تحمله داخلها وبين العالم الخارجي. كيف ترى الكتابات التي صدرت أخيراً واشتبكت مع ثورة 25 يناير؟ - غالبية هذه الأعمال، تخلت عن المعايير الفنية للكتابة الأدبية ووقعت في فخ التسجيلية. الرواية فن كبير لا يمكنه متابعة حدث كبير بحجم ثورة 25 يناير ولا يجوز أن يدخل في منافسة مع وسائط أخرى أقدر على المتابعة والتسجيل. الثورة نفسها حدث لم يكتمل بعد، وبناء عليه تظل الرؤية ناقصة. العمل الروائي الذي يشتبك مع الثورة في الوقت الحالي يبدو لي كشاحنة كبيرة تحاول أن تسير في شوارع ضيقة يمكن أن يسبقها فيها أشياء صغيرة أقدر على المنافسة مثل القصة القصيرة، واللوحة والقصيدة. هل تتوقع حدوث تغيير في شكل الكتابة الأدبية في ظل التطورات المرتبطة بالثورة؟ - الفترة المقبلة ستشهد تغيراً إجبارياً في طرق الكتابة، فما حدث هو أننا بعد الثورة عدنا إلى المربع الصفر، فالحديث عن ألفباء الديموقراطية والوعي السياسي لقارئ ظل طوال ثلاثة عقود عرضه لعمليات منظمة وممنهجة من التسطيح المتعمد، صحيفة «الأهرام» مثلاً كانت في الماضي تنشر روايات كاملة في ملاحق أدبية، لكنها تخلت عن هذا الدور، والصفحات الثقافية الموجودة الآن وعلى ندرتها، إلا أنها في معظم الجرائد وأمام سطوة الإعلانات عرضة للإلغاء الكامل... الأوضاع قبل ثورة يناير كانت أشبه بالهرم المقلوب والانتشار الواسع لأخبار الفن والرياضة كان على حساب الثقافة والفكر ورأينا نوعاً من التغييب المتعمد للوعي المصري، لذلك نحن الآن نبدأ من الصفر. في روايتك «العابرون» قدمت نصاً مختلفاً عما يميل الى كتابته أقرانك. شخصيات الرواية موزعة بين عالمين، ظاهر وباطن، في شكل قد يشتت القارئ، ألم تخش المغامرة؟ - «العابرون» صدرت بعد «سقوط النوار»، و «توتة مائلة على نهر». وقت كتابة العملين، كنتُ منبهراً بما يطلق عليه عذوبة التناول في مواجهة الواقع، ولأنني عشت لحظات انهيار القرية المصرية التي بقيت على حالها آلاف السنين حتى دهمتها التغييرات المتلاحقة، اجتاحتني رغبة ملحّة للكتابة عن عوالم الريف القديمة، لكن أثناء كتابة «العابرون» كانت لدي قناعة بأن الواقع وحده لا يكفي لكتابة رواية مدهشة حتى لو كان غرائبياً، خصوصاً بعدما تبين لي أن العلم يتعايش مع الأسطورة والخرافة في شكل لا ينبئ بأن أحدهما سيزيح الآخر، فهذه الازدواجية متجذرة داخل الشخصية المصرية. كان هدفي من مقاربة هذه العوالم صنع صراع تقدمي ثقافي بين العلم والأسطورة عبر مزج كبير وشامل ومراوحة بين عالمين متناقضين في سلاسة لا تسمح بوجود أي نوع من المطبات التي قد تزعج القارئ أو تشتت أفكاره. «سالم عبدالغني» في «دموع الأبل» حلم بالوصول إلى «مرج عامر» أو المدينة الفاضلة، كذلك ثوار التحرير خرجوا يوم 25 يناير بحثاً عن يوتوبيا، فهل ثمة قواسم مشتركة بينهما؟ - «سالم عبدالغني» هو واحد من هؤلاء البسطاء المشغولين بلقمة العيش في واقع شديد القسوة، ما اضطره إلى امتهان أعمال هو غير مقتنع بها، من دون أن يتخلى عن الركض خلف حلم ليس هناك دليل واحد على وجوده. عندما خرجنا يوم 25 كانون الثاني (يناير) 2011 كان لدينا حلم. هذا الحلم بدأ يكبر بمرور الوقت بعد أن رفع الثوار سقف المطالب. سقط النظام، لكن الغموض لا يزال مهيمناً، وما زلنا مطالبين ببذل مزيد من التضحيات حتى يتحول الحلم إلى واقع. قليلاً ما نقرأ نقداً حول أعمالك، هل لديك تفسير لذلك؟ - في مصر، الكتاب وحده لا يحقق للكاتب المرتبة التي يستحقها. هناك عوامل أخرى كثيرة. أنا طبيب لنصف الوقت، وأديب في النصف الآخر. الطب أفادني كأديب وهو من الروافد الأساسية في كتاباتي، لكن على جانب آخر عملي كطبيب يعوقني عن التواجد في التجمعات والمنتديات الثقافية. غالبية كتبي صدرت عن جهات نشر حكومية، وهي منتشرة إلى حد يرضيني، لكن يظل للنقد الأدبي دور في تقديم هذه الأعمال إلى جانب دور المكتبات. يوجد في مصر عدد من الناشرين الكبار يلعبون دوراً في الحياة الثقافية، يكاد يكون مريباً، فهم يسعون إلى تقديم أسماء بعينها والتكريس لها، على حساب أخرى. حصدت أعمالك عدداً من الجوائز الأدبية المهمة، هل يمكن النظر إليها بوصفها معياراً لتقويمها؟ - في ظني أنه يمكن الاستناد اليها. لكن علينا أن نعي حقيقة أن عملية التقويم نفسها محاطة بقدر من الشك مهما علت درجة النزاهة والحيادية التي تتمتع بها اللجنة المنوط بها تقويم العمل الأدبي، فالتقويم في نهاية الأمر عملية نسبية، والعمل الأدبي نفسه هو منتج غير قابل للتقويم الصحيح والدقيق، لأننا لسنا بصدد عمليات رياضية. الأمر يخضع لذائقة المحكمين، فضلاً عن تدخل عوامل أخرى، مثل القضايا المطروحة في الوقت الحالي، وعدد الأعمال المتقدمة. على رغم ذلك تظل الجائزة، وفي ظل غياب النقد، معياراً يمكن الركون اليه في تقويم العمل الأدبي، بخاصة اذا كانت هذه الجوائز ممنوحة من جهات تتوخى الموضوعية. فوز الأدب العربي بجائزة نوبل مرة أخرى مرهون بماذا؟ - بحركة الترجمة وبمجهودات ضخمة وجادة من جانب الناشرين والمؤسسات الثقافية والكتّاب أنفسهم، أو أن يتوافر لدينا أديب خارق وصاحب مؤهلات كبيرة تمكنه من الحصول عليها مثل نجيب محفوظ الذي ظل طوال سبعة عقود يكتب الرواية بلا توقف. هناك تخبط واضح داخل مؤسسة النشر في مصر، بقطاعيها الحكومي والخاص لدرجة أننا فشلنا في تقديم أدب ما بعد نجيب محفوظ إلى العالم. قلة الإنتاج الأدبي سمة مشتركة بين مجايليك... لماذا؟ - هي سمة عامة في الأجيال التي تلت جيل الجد نجيب محفوظ الذي قدم عدداً هائلاً من الروايات. أما جيل الستينات، فمنجزه الروائي لا يزيد في المتوسط عن ثماني أو عشر روايات لكل كاتب. على سبيل المثال، إبراهيم أصلان أنتج إجمالاً ما لا يزيد على 8 كتب، مع الوضع في الحسبان أن معظم أعمال كتاب جيل الستينات لم تعرف على نطاق واسع إلا في الثمانينات. أيضاً كتاب جيل السبعينات لا يزيد انتاج الواحد منهم على ست أو سبع روايات في المتوسط ونحن لم نعرفهم حقيقة إلا في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات. الرواية في النصف الأول من القرن الفائت كانت للمعرفة والترفيه في آن. أما الآن وبفضل وسائط أخرى انسحب الدور المعرفي من الرواية واقتصر على مساحات ضيقة ومحدودة، وبالتالي فإن جيل التسعينات، أو «جيل الأحفاد» كما أحب أن أسميه، لم يضع قلمه بعد، لذا يصعب التقويم، لكنني أرى أنهم الأكثر صخباً والأقل إنتاجاً، وعلى رغم هذا، فإن الجاد منهم يحاول العثور على موضع قدم لإنتاج رواية قادرة على المنافسة والبقاء. في ظل المشهد الحاصل في مصر الآن، هل تتوقع تضييقاً على الإبداع في السنوات المقبلة؟ - إذا كان أحدهم رفع قضية أمام المحاكم المصرية يطالب فيها بتحطيم أبي الهول والأهرامات، فماذا ننتظر من تيار أغلبه متشدد، ولم ينجب على مدار عقود روائياً ولا شاعراً مرموقاً. أتوقع تضييقاً على الإبداع المصري في السنوات المقبلة يصل إلى درجة الحجر من خلال قراءات متربصة وضيقة الأفق للنصوص الأدبية، وملاحقات قضائية لا تنتهي لأدباء ومبدعين، وهذا يتطلب من الكتاب والمبدعين أن يكونوا أكثر وضوحاً وشراسة في الدفاع عن حرية الإبداع، ومواجهة هذا التضييق.