لا تربطني بالأمير أحمد بن عبدالعزيز أية علاقة شخصية أو عملية على الإطلاق، ولا أذكر أنني التقيت به في حياتي كلها سوى مرتين، كانت الأولى قبل ما يقرب من 24 عاماً، كنت وقتها عميداً لكلية التربية بجامعة الملك سعود، واحتجت إلى الذهاب إليه في مكتبه في وزارة الداخلية بالرياض حينما استغنت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بشكل مفاجئ وفي منتصف العام الدراسي (ربما لأسباب سياسية) عن خدمات ثلاثة من كبار علماء الشريعة والتربية من غير السعوديين. كان للحدث أصداؤه في الأوساط الأكاديمية في المملكة، ووجدت حينها أن من غير اللائق أن يغادر أولئك العلماء المملكة بعد عشرات السنين التي قضوها فيها بمثل تلك الطريقة. وليقيني بأن انتماءهم لأية مؤسسة علمية يزيد من قدرها ومكانتها العلمية، ولأن جامعة الملك سعود كانت في ذلك الحين في حاجة لأمثالهم، فقد سعيت لاستقطابهم للعمل في قسم الثقافة الإسلامية في الكلية التي كنت عميدها، مستحضراً قول أبي الطيب رحمه الله: إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم غير أن عقبة كانت تحول دون ذلك، وهي صعوبة نقل كفالتهم للملابسات التي اكتنفت الاستغناء عنهم من جامعة الإمام. ذهبت إلى مكتب الأمير أحمد من دون موعد، فوجدته هاماً بالخروج من البوابة الرئيسة للمبنى، فسلمت عليه واستأذنته في أن أعرض عليه ما جئت من أجله، فرحب على رغم استعجاله لموعد خارج وزارة الداخلية. شرحت له ملابسات الأمر، وبينت له مبررات الحرص على بقائهم، ورجوته أن يوافق على نقل كفالتهم إلى جامعة الملك سعود. كان المناخ السياسي في المملكة وفي المنطقة كلها لا يبشر بأن طلبي على رغم وجاهته سيستجاب له. لكن لم يمض إلا يوم أو يومان حتى بُلِّغتُ بأن موافقة وزارة الداخلية على تعيينهم في جامعة الملك سعود ونقل كفالتهم تمت. كانت هذه هي المرة الأولى التي التقيت فيها بالأمير أحمد، أما المرة الثانية فكانت في منزل المربي الكبير الشيخ عثمان الصالح، رحمه الله، قبل ما يزيد عن 11 عاماً حين استضافه في ندوته الأدبية المشهورة. في ذلك المساء الجميل ومن دون ترتيب مسبق طلب مني أخي الفاضل والمسؤول عن ترتيبات تلك الندوة بندر بن عثمان الصالح أن ألقي كلمة في تلك المناسبة. لا أذكر تفاصيل ما قلته، ولكن محور حديثي كان عن تقديري الكبير لتواضع الأمير أحمد، واجتنابه للبهرجة والمظاهر البراقة وعمله الدؤوب بصمت وبعيداً عن الأضواء. أشعر بأن من حق الأمير أحمد علينا جميعاً، وقد ترجل عن صهوة منصبه بعد ما يقرب من أربعين عاماً من العمل بصمت، أن نشيد بما نعرفه عنه من خصال نبيلة، وأن نعبر له عن تقديرنا وامتناننا لكل ما قدمه لهذا الوطن الغالي من خدمات جليلة وتضحيات كثيرة، فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله. لقد عرف الناس الأمير أحمد نائباً لأمير منطقة مكةالمكرمة لمدة أربعة أعوام، ثم نائباً لوزير الداخلية لما يقرب من 37 عاماً، وأخيراً وزيراً للداخلية لأقل من أربعة أشهر. كان في كل تلك المواقع حازماً برفق، قوياً بلين، حريصاً كل الحرص على الالتزام بما يفرضه الشرع والنظام. كان محباً للخير، وقد اطلعت شخصياً من خلال عملي المهني على حالات كثيرة لقضايا أسرية تجارية كبيرة تم حلها بوساطات وتدخلات شخصية منه، أخذت الكثير والكثير من أوقاته الخاصة، والكثير الكثير من جهوده وإمكاناته، ولم يعلم عنها في حينها سوى أطرافها المباشرين. على المستوى الشخصي، اشتهر الأمير أحمد بالاستقامة الفكرية والسلوكية والغيرة الأصيلة على الدين والقيم. كما اشتهر بتقديره الكبير لأهل الفضل، وحرصه على إنزال الناس منازلهم، ولم يعرف عنه أنه اعتدى على أحد، أو غمط حق أحد، أو أساء استخدام ما كان متاحاً له من سلطات. ولئن كان ترجله المبكر مفاجأة كبيرة حتى لأكثر المتابعين للشأن المحلي، فإن ثقتي كبيرة بأنه مجرد استراحة عابرة لفارس لا يستغني عنه الوطن، بل الوطن في أمس الحاجة إلى حكمته وخبرته ورجاحة عقله، خصوصاً في هذه المرحلة الحساسة من تاريخه وتاريخ المنطقة برمتها. إن أبناء الملك عبدالعزيز، رحمه الله، جميعهم، سواء من تولى منهم المناصب الرسمية، أو من لم يتول أي منصب على الإطلاق، يشكلون في نظري ونظر كثيرين غيري من أبناء الوطن صمام أمان للمملكة، وقد تميّزوا وإن لم يتماثلوا بتقدير الناس لهم، وبحرصهم على التقرب إلى الناس وتلمس حاجاتهم، وقبل ذلك وبعده بحرصهم على ما فيه خير الدين والوطن. وفي المقابل أصبح هذا الوطن الغالي أمانة في أعناقهم جميعاً، وأملي وأمل كل غيور على المملكة واستقرارها وازدهارها أن تتوحد كلمتهم، وأن يتموا مسيرة والدهم ومن رحل من إخوانهم، رحمهم الله، جميعاً لإتمام بناء هذا الصرح الغالي علينا وعلى الأمة كلها، وذلك من خلال تطوير النظام السياسي للدولة، وإتمام بناء المؤسسات الدستورية، والمضي من دون تردد في تحقيق النهضة المنشودة التي تضع المملكة على جميع المستويات في المكان اللائق بها، والتي تجعلها الأنموذج الأمثل للدولة الإسلامية الحديثة. * قانوني سعودي.