الأرجح أن جمهور فيلم «الرجل العنكبوت» (سبايدر مان)، سيسر لمعرفة أن بحوث العلم الحديث تؤيّد القوة التي ينسبها الفيلم لخيوط العنكبوت، على رغم أن الفيلم يشتطّ في هذا الأمر إلى أبعد من مقولات العلم! ويشتهر حرير العنكبوت ببعض الخصائص المذهلة، فهو أقوى من الفولاذ وأكثر متانةً من ألياف الكيفلار المستخدمة في صنع مركبات الفضاء. والمفارقة أن هذه المتانة تأتي مع مرونة تجعله قابلاً لأن يُنسج بأشكال متنوّعة. وأظهرت دراسة جديدة نشِرت في مجلة «نايتشر» أخيراً، أنّ هذه الخصائص تأتي من كون حرير العنكبوت مصنوعاً من مواد تتميّز ليس بالقوة وحدها، بل بالذكاء أيضاً. وفي هذا الصدد، أوضح المهندس ماركوس ج. بويهلر من «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» الذي شارك في كتابة الدراسة، أن حرير العنكبوت له طريقة خاصّة للانتقال من ميزة الطراوة إلى الصلابة، ما يضمن استمراره في أداء وظيفته بالشكل المناسب. من جهة أخرى، يوفّر نسيج العنكبوت مسكناً لهذا الحيوان، وسبيلاً لاصطياد فرائسه أيضاً. كذلك يتحتّم على هذا النسيج مقاومة المهاجمين المزعجين، والصمود أحياناً في وجه رياح توازي الإعصار. أقوى من الفولاذ استناداً إلى نماذج محاكاة افتراضية على الكومبيوتر لحرير العنكبوت، وتجارب أُجريت على شِباك عناكب من حدائق أوروبيّة، اكتشف بويهلر وفريقه أنّ سبب تميّز النسيج بمزايا فريدة من نوعها إنما يكمن في قدرته على التفاعل مع مستويات متفاوتة من الإجهاد. وعلى سبيل المثال، من شأن الرياح الخفيفة أن تجعل النسيج أكثر طراوةً، ما يجعله ميّالاً إلى التمدّد، مع الحفاظ على تركيبته الإجماليّة. وإذا مورست ضغوط أكبر على أمكنة معيّنة من النسيج، كتوجيه ضربة على خيط معيّن، يصبح الحرير صلباً ويتمزّق. في المقابل، لا تتمزّق في هذه الحال إلا الخيوط الأكثر امتداداً، علماً بأن تفكّك أجزاء صغيرة من الشبكة يساهم في حفظ متانة التركيبة الإجمالية من جهة، ويجعل الشبكة فعلياً أقوى مما كانت عليه، من جهة أخرى. واكتشف الباحثون أيضاً أنّ إزالة ما يصل إلى عُشر الخيوط من مواقع مختلفة من شبكة العنكبوت أتاحت للتركيبة حمل أوزان إضافيّة بنسبة تراوحت بين 3 في المئة و10 في المئة. وبرهنت هذه الأمور تفوّق شبكة العنكبوت على موادّ أخرى كالفولاذ الذي ينهار في ظلّ ظروف كهذه. وبحسب عالم الأحياء تود أ. بلاكلدج من جامعة «أكرون» في أوهايو، تقدّم هذه الدراسة لمحةً عن نجاح العناكب في التقاط فريستها. وأوضح بلاكلدج أنه من المهمّ جداً أن يتمدّد الحرير عند تعرّضه إلى صدمة ما، لأن هذا يمكّنه من احتضان العنكبوت وحمايته من السقوط. وأشار بويهلر إلى امكان أن يستعين المهندسون أيضاً بأسرار حرير العنكبوت لمواجهة تحديات متنوّعة، إذ أنّ قدرة هذا النسيج على تحمّل أضرار طفيفة من دون حدوث خلل ببنيته كلّها، ربما كان مفيداً حتى في تصميم شبكات افتراضية كالإنترنت. واستفادة من حرير العنكبوت، يستطيع حُماة الإنترنت أن يلجأوا إلى مناورات من نوع التخلّي عن عقدة محليّة عند حدوث هجوم إلكتروني على الشبكة، بهدف تفادي تعطّل نظام الإنترنت برمّته. إلى ذلك، يساعد حرير العنكبوت في فهم الطريقة التي ينسج فيها الجسم تراكيب البروتينات التي تدخل في تشكيل أنسجته وأعضائه. ويفيد الأمر نفسه علماء النانوتكنولوجيا في صنع أنابيب نانونيّة مؤلّفة من نسيج ذرّات الكربون، تصلح لاستخدامها في صنع أشياء مختلفة، بداية بمعدّات القتال ووصولاً إلى مركبات الفضاء.