ليس لجمالها بين التونسيات مثيل. فارعة كنخلة، نديّة كورود الصّباح، صافية كجدول... وصامتة. لم يكن من السّهل اقتلاع الكلمات من بين شفتيها المضمومتين وعينيها الساهيتين عما يدور حولها، بعيداً من حقول الذّرة. حياة ذات السنوات العشرين ترفض الحديث عن نفسها، وتجيب «أنا بخير»، في حين تفضح عصبية أصابعها التي تمسك بعصا رقيقة توجه بها ماشيتها، وجعاً دفيناً يأبى كبرياؤها القروي الإفصاح عنه. ثم تستطرد مبتسمة «رعاية المواشي هي مصير كل من انقطعت عن الدراسة في قريتي الصغيرة». كمثيلاتها من فتيات القرية الصغيرة في محافظة المهدية الساحلية تستفيق حياة فجر كلّ يوم لتقوم بأشغالها الفلاحية المختلفة. تفتح زريبة المواشي وتأخذ غنماتها إلى المرعى، تجمع ما يملأ كيسها البلاستيك من أعشاب، تلتقط حزمتين من حطب الفرن ثم تعود أدراجها. تتناول حياة فطور الصباح مع والديها وأشقائها الذكور ثم تعود لتلتحق برفيقاتها في حقول اللوز. هناك ترتفع أصواتهن بأهازيج ريفية شيّقة وهن يجمعن حبوب اللوز ويضعنها في أكياس ليأخذها صاحب الحقل إلى مستودع غير بعيد. بعد الانتهاء من عملية الجمع تتجه الفتيات إلى المستودع حيث يتناولن الغداء ويقضين فترة ما بعد الظهر في تقشير اللوز ووضعه في أكياس. عند الغروب تعود كل منهن إلى منزلها حيث واجبات جديدة تنتظر: تقديم العشب والماء للمواشي وإغلاق الزريبة. ينتهي يوم متعب وتستعد حياة ليوم جديد. وإن انتهى موسم جمع اللوز يبدأ موسم الزيتون أو الغلال أو حصاد القمح. أسبوع من العمل اليومي الشاق ينتهي بذهاب الفتيات إلى السوق الأسبوعي في القرية ينفقن فيه دنانير قليلة كسبنها في شراء «جهاز العرس» في انتظار أن يأتي فارس الأحلام. ويمكن اعتبار حياة ومثيلاتها في تونس عنصراً مهمّاً في الدورة الاقتصادية، فالعمالة الفلاحية ضرورية في ظل ما تتميز به المناطق الريفية في البلاد من ازدهار في الإنتاج الزراعي. غير أنّ معاناة حياة ومثيلاتها لا تكمن أساساً في المشقة التي يتعرضن لها يومياً أو في ضآلة المبلغ المالي الذي يتقاضينه لقاء أتعابهن، فحياة ومئات الفتيات في الأرياف التونسية يجبرن على الانقطاع عن الدراسة مبكّراً وإن تفوقن لأسباب عديدة، أهمّها الفقر والنظرة الدونية لساكني الأرياف، وتحديداً الإناث، فغالباً ما يفضّل الأهل تخصيص مواردهم لتعليم الذكور في حين يتم استغلال الفتيات ك «مساعدة» للعائلة إلى أن يحين موعد تزويجها. وتمثل حياة نموذجاً عن هذه الفئة التي تعاني في تونس إهمالاً كبيراً. فقد أجبرتها عائلتها على الانقطاع عن الدراسة في سن العاشرة بدعوى أنها تعلّمت ما يكفي من القراءة والكتابة كما أنها كبرت بما يكفي لمنعها مع الاختلاط في المعاهد الثانوية مع أترابها الذكور. هذا فضلاً عن غياب المشاريع التنموية الخاصة بهذه الفئة وانعدام وسائل الترفيه وصعوبة التنقل من مناطقهن الريفية إلى المدن من دون مساعدة أولياء أمورهن. وفي الأرياف تمتلك العائلات حق تقرير مصير بناتها من دون رقابة قانونية، فالحكومات المتعاقبة على البلاد منذ عقود تهاونت بشكل مخز في تطبيق قانون إجبارية التعليم في المناطق الريفية على رغم أنها توليه أهمية كبرى في المدن. وينص هذا القانون على معاقبة كل مواطن تونسي يمتنع عن إلحاق ولده/ ابنته بمؤسسات التعليم الابتدائي، أو يعمد إلى سحبه منها دون سن ال16 بغرامة مالية وفي حال عدم الامتثال تفرض على الولي عقوبات تحددها المجلة الجزائية. فبالإضافة إلى عدم تطبيق هذا القانون فإنّ المنظمات الحقوقية المهتمة بدعم المرأة في تونس لم تول هذا الموضوع الاهتمام الكافي خصوصاً مع تنامي انشغالها بما يدور في الساحة السياسية من صراعات. وعليه، تبقى حياة تصارع أشغالاً يومية شاقة فرضت عليها بسبب التمييز على أساس الجنس، وتصارع شعوراً بالحرمان من ممارسة حقها في التعلم والدخول إلى الجامعة وتحصين نفسها علمياً واجتماعياً، كما تكابد شعوراً بالنقص والدونية كلّما صعب عليها مخاطبة رفيقات سابقات لها ممن سمحت لهن الظروف بمواصلة تعليمهن. هي ضحيّة بكلّ المقاييس، نسي أهلها أولوياتها وأحلامها في سبيل أولوياتهم وأحلام إخوتها الذكور ونسيتها الحكومات والمنظمات أو تناستها في سبيل صراعات سياسية لم تفض إلى مصلحة تذكر، وتناستها القوانين المكدّسة في أدراج القضاء. حياة المنسيّة وضعت هي أيضاً في أدراج الانتظار، علّ عريساً من أقاربها يختطفها من شقاء استعباد العائلة ليحملها إلى شقاء جديد.