سجّلت السنة الماضية كمًّا كبيرًا من الإنتاج السينمائي التونسي، وبخاصّة في صنف الأفلام الروائية الطويلة، فإن ما تم عرضه في القاعات السينمائية خلال السنة المنقضية تميّز باختلاف المضامين والرؤية المغايرة في الطرح السينمائي، وباختلاف المضامين والرؤى المغايرة. فبعد إنتاج شريط “الدواحة” للمخرجة رجاء العماري، وشريط “كان يا مكان” لهشام بن عمار سنة 2009م، عرضت قاعة السينما (أفريكآرت بالعاصمة التونسية) مؤخرًا أحدث شريط سينمائي تونسي مدته ساعة وأربعين دقيقة بعنوان “آخر ديسمبر” للمخرج معز كمون وهو ثاني أفلامه الروائية، وهذه المرة كتب السيناريو والحوار وأخرجه بعد شريط “كلمة رجال”، حيث تجنّب المخرج هذه المرة كل ما هو فولكلور بخصوص الحياة الريفية في تونس، وتجنّب تلك اللهجة التي غالبًا ما يقع استعمالها كلّما تعلق الأمر بالأرياف، واعتمد لهجة العاصمة، وتجنّب اللباس الذي يرمز الريف إلا في بعض المشاهد القليلة، وقدم الحياة الريفية بشكل قريب من الواقعية. كما وجد المخرج متعة خاصة في تصوير المشاهد الطبيعية الجميلة بالقرية، كذلك ركّز الكاميرا على الممثلين والممثلات مثل: هند الفاهم (عائشة الفتاة الريفية)، وظافر العابدين، فكانت الكاميرا ترصدهما في أدق التفاصيل. ينطلق شريط “آخر ديسمبر” بمشهد يصور الطبيب آدم (ظافر العابدين) في رواق أحد المستشفيات يبكي إثر فقده عزيزًا عليه (الشريط لا يبيّن هويته)، وبعد هذا الحادث يدخل في حالة نفسية من الكآبة والوحدة وعدم الرغبة والتركيز في عمله، فيقرر قبول عرض بالعمل في إحدى القرى الريفية، لينعم بالهدوء والحياة الجميلة. في هذه القرية (لا يحيلنا الشريط على موقعها) يلتقي آدم الطبيب الرومانسي الحالم بمختلف النماذج البشرية التي تعيش هناك، انطلاقًا من سائق سيارة الأجرة (لطفي بندقة) وهو رجل مهووس بالشعر نقي السريرة عفوي التصرفات، عالمه الشعري يلهيه عن واقعه ويؤثّر في حياته العائلية التي ينخرها الفساد (زوجة تخونه) وابنته آمنة متأزمة من تصرفات زوجة أبيها (قامت بالدور الطفلة دنيا السعدي)، ثم يلتقي بعمدة القرية (جمال المداني) نموذج للإنسان الانتهازي الذي لا مكان للقيم في حياته وكل همّه تحقيق غاياته مهما كانت النتيجة، ورغم رداءة ظروف العمل التي يواجهها الطبيب آدم عند مباشرة عمله فإنه يبدو غير مكترث، حيث تبيّن المشاهد المتتالية جانبًا من الرفاهية التي كان يحلم بها، ركوب زورق صغير والانصراف للصيد وعزفه على الجيتار في فناء منزل ريفي ليلًا تحت ضوء القمر. يلتقي الطبيب بعائشة (هند الفاهم).. فتاة في العشرين تعمل بمشغل للخياطة وتحلم بحياة أفضل، وتربطها علاقة عاطفية بمراد (حلمي الدريدي) الذي يحلم بالهجرة إلى أوروبا “ليقفز” لحياة أخرى، فيوهم عائشة بالزواج وفي إحدى الليالي يبيع كل ما يملك ويغادر القرية هاربًا وتاركًا عائشة حاملًا، وهذا الوضع يقود عائشة إلى آدم الشاب المثقف المتفهم الفنان الرومانسي (الذي تحلم به كل فتاة) ويزلزل حياتها رغم تصرف والدتها الخفي مع إحدى الجارات لتزويجها من ابنها سفيان (لطفي العبدلي) العائد لتوه من أوروبا (فرنسا)، فتجد عائشة نفسها بين منعطفين، خطيبها سفيان الذي سيرحل بها من القرية ويخلصها من بؤسها، وبين آدم الهادئ المتفهم، وفي لحظة تصادم مع خطيبها يتركها بحجة رفضه الارتباط بفتاة لها تجارب عاطفية ومتحررة إلى درجة ربما تغبطها عليها بنات المدن، وسيجارة تكاد لا تفارقها ولباس عصري وعقلية جد متقدمة، وذلك رغم إقامته للعمل في أوروبا وتصور الكل أنه يتمتع بعقلية متفتحة. نهاية أحداث هذا الفيلم ليست مأساوية ولا مفاجآت فيها، بل كانت سعيدة بفضل الطبيب آدم الذي يقبل بأسلوب عائشة وتصرفاتها.