كان عمري 7 سنوات، وفي صباح يوم عيد وجدت نفسي واحدة بين أربع فتياتٍ يعبرنَ أزقة القرية البحرية "سنابس"، في اتجاه الشاطىء. كانت أمواج الخليج تصفع وجه الصخور الناتئة بين كثبان الرمال الناعمة. كأنها تمد يدها لاستقبال "ودائعنا" السنوية. رمت كل فتاة "دوخلتها" في البحر، ورحنا معا نردد أنشودة المناسبة الفلكلورية "دوخلتي حِجّيْ بي.. حِجّي بي، لامنْ يجيْ حبيبيْ.. حبيبيْ، حبيبيْ راحْ مكهْ، ومكة المعمورهْ، أم السلاسلْ والذهبْ والنورهْ". تتذكر المذيعة السعودية عرفات الماجد أول وآخر تجربة لها في الاحتفال ب "الدَّوْخَلة"، على الطريقة الشعبية عندما ألقت "دوخلتها" وهي مكوّنة من علبة معدنية فارغة لمعجون "الطماطم"، وضعتْ فيها سمادا من حظيرة مواشٍ في القرية، وأضافت إليها بذور الشعير، وتركتها أياماً لتنبت ويشتد سيقانها. تضيف: "كنا نعبر عن لحظة فرح من دون إدراك ما الذي تعنيه هذه العشبة، وعن ماذا تدل، وما هو جذرها وأصلها.. كلّ ما في الأمر هو أنني ورفيقاتي وجدنا الشاطىء مزدحماً بالأطفال الذين يرمون علبهم المعشبة في البحر.. وسط الأهزوجة المكررة..! "الدوخلة"، فلكلور شعبي يمارسه سكان منطقة الخليج العربيّ كلّ عام في أيام عيد الأضحى المبارك، وحين وُلدت فكرة مهرجان "الدوخلة" في الجزيرة التاريخية "تاروت" أوجدت المذيعة السعودية لنفسها موقعاً في اللجنة النسائية المسؤولة عن تنظيم المهرجان، لتكون واحدة من قرابة ألف متطوّع ومتطوعة يعملون لصالح صناعة فعاليات مشروع اجتماعي لا يستهدف الربح؛ وهدفه استحضار التراث بما فيه من مباهج، ودمجه بأنشطة ثقافية واجتماعية متنوعة، يحتشد فيها عشرات الآلاف في أيام المهرجان. زمن الغوص على ضفاف شواطىء الخليج العربي؛ مثّلت "الدوخلة" تقليداً تراثياً محضاً، متوارثا منذ زمن رحلات الغوص والحياة الصعبة. ويقتصر على الأطفال من الجنسين. وحسب شهادات كبار السنّ في المنطقة الشرقية؛ فإن القرى الساحلية كان أطفالها يلقون ب "الدّوْخَلَة" في شواطىء الخليج يوم العيد الأكبر، في حين كان أطفال القرى الريفية التي لا تطلّ على بحر يلقون بها في العيون الجوفية التي كانت منتشرة بالمئات في حواضر الخليج القديمة. وعادة تقوم الأمهات بحياكة وعاء من خوص النخل يُشبه "القفهْ"، ليضع الأطفال فيه قليلاً من التراب والسماد، وشيئاً من الحبوب والبذور القابلة للزرع، ويُسقى يومياً إلى أن ينمو. وفي يوم العيد يتجه به الصغار إلى البحر، أو العين الجوفية، ويردّدون أهازيج شعبية تتحدّث عن الشوق للغائبين، قبل أن يُلقوا به في أحضان ماء البحر. ولهذه العادة أسماء أخرى في منطقة الخليج مثل "حَيّهْ بَيّهْ"، و "إسْعِنّهْ"، وكلّها تشكل الطريقة ذاتها في الاحتفال. وطبقاً للمعاجم اللغوية فإن ل "الدّوخلة" جذراً لغوياً أصيلاً، وهي "سفيفة من خوص يُوضع فيها التمر والرطب". وكلمة "سفيفة" اشتقاق لغوي صرفي بمعنى "مسفوفة"، أي أن خوص النخل يتمّ سفّه (أي حياكته) بطريقة محدّدة يعرفها سكان الريف في منطقة الخليج العربي. وقد استُخدم هذا الوعاء في ممارسة العادة مكتسباً الاسم اللغويّ الفصيح نفسه. الباحث التاريخي محمد أمين أبو المكارم يقدم تفسيرا سيكلوجيا للطريقة التي كان الأطفال يمارسونها تحت إشراف الكبار. فهو يرى أنها "نوع من التدريب على الفقد". ويُشير أبو المكارم إلى أن "الدوخلة" كانت تركز على الصغار الذين يسافر آباؤهم ويتركون عوائلهم لسبب من الأسباب. خاصة أن رحلة الحجّ كانت تمثّل مخاطرة حقيقية في الزمن القديم. وخاصة أيضاً أن غياب الآباء كان له سبب آخر هو الغوص بحثاً عن اللؤلؤ، أو الصيد في عرض البحر المسكون دوما بأخبار الفواجع والخطر. في زمن الجوع والفقر؛ مثّل الغوص فرصاً سنوية للهاربين من ضنك العيش إلى سعة الرزق، وحسن الحال. إلا أنها فرص محفوفة بخطر كبير، وربما أبحرت في الموسم الواحد عشرون سفينة وعادت منها 17 فقط. أو ربما رحل على ظهر السفينة الواحدة 70 بحاراً وعاد 58 منهم فحسب، بعد أن ابتلع البحر البقية. كانت الرحلة سعياً إلى الغنى.. أو الموت..! ومن هنا كان الأطفال "يتدرّبون على التخلّي عمّا يحبّون وسط فرح وبهجة"، حسب تفسير أبي المكارم. زمن النفط التحولات الهائلة التي شهدتها منطقة الخليج؛ غيّرت أنماط حياة السكان، ووسائل الكسب، وطرق طلب الرزق. لم يعد الغوص الآن مهنة، ولا يعني البحث عن اللؤلؤ أحداً غير قلة من هواة البحر. النفط، ووفر الحياة العصرية، غيّر كلّ شيء. وجلبت المدنية حياة أخرى تكاد تنفصل عن ذلك الحسّ الحميميّ البسيط. لم يعد الأطفال يحفلون بعشبة من شعير أو لوبياء. حتى البحر تغيّر، والشواطىء الموحلة صارت واجهات بحرية ممتدة بمتنزهات خضراء مملوءة بألعاب الأطفال الحديثة. ومثلما انقرضت عشرات الألعاب الشعبية المرتبطة ببيئة الريف والبحر والصحراء في المنطقة الشرقية؛ انقرضت "الدوخلهْ" حتى من خيال الكهول، فضلاً عن الشبّان. صارت "نسياً منسياً" في كتب يسيرة بذلت محاولات أيسر في الرصد والتوثيق، وخلت الشواطىء والعيون الجوفية من المحتفلين بالتقليد السنوي القديم. ووسط نسيان الذاكرة النفطية؛ وُلدت فكرة إحياء "الدّوخلة" من قرية بحرية على طرف من جزيرة تاروت في المنطقة الشرقية قبل نحو خمس سنوات. كانت الفكرة الأولى حفلاً جماعياً دُعي إليه أطفال القرية عبر إعلان ورقيّ بسيط. وفي يوم العيد عاش الصغار والكبار ساعتين من المرح، وألقوا بدوخلاتهم في مدّ البحر، وارتدت فتيات أزياء الجدّات التقليدية المزركشة من "المقانع" و"البخانق" و"النفانيف" الشعبية.. كان ذلك وحسب رئيس لجنة المهرجان حسن آل طلاق؛ فإن الاحتفال الأول "كلّف 7 آلاف ريال، وكان بسيطاً وعفوياً، وتطوّع لإنجازه 34 شاباً من القرية، ولم يحظَ بأيّ دعم رسمي". مهرجان سنوي نجاح الاحتفال في سنته الأولى؛ حرّض المنظمين على تطوير الفكرة إلى مهرجان في العام التالي؛ وهو ما تمّ بالفعل، حيث أصبح المهرجان سنوياً، وأخذت أرقامه تتزايد كلّ عام، ليصل عدد الجهات الداعمة في العام الماضي إلى 99 جهة، ويصل عدد المتطوعين إلى 772 شاباً وشابة، وعدد الزوار إلى أكثر من 175 ألفاً، وتقفز ميزانية التكاليف إلى أكثر من مليونين و 400 ألف ريال، في مشروع اجتماعيّ غير ربحيّ مطلقاً. وبدلاً من الساعتين اللتين أقيم الاحتفال الأول في مدتهما؛ امتدّ مهرجان العام الماضي إلى 7 أيام متواصلة. وبدلاً من الاقتصار على الأهازيج الشعبية المكررة ورمي الدوخلة في البحر، بات المهرجان مزيجاً من الفعاليات الثقافية والاجتماعية والصحية. وتشعّبت البرامج إلى أمسيات شعرية، ومعارض تشكيلية، وتصوير فوتوغرافي، ومسرحيات، وورش عمل وتدريب، ومعارض فلكلورية، وأجنحة توعية أمنية وصحية وقوائم طويلة من الأنشطة التي لم تكن تخطر على بال النفر القليل الذين أطلقوا ذلك الاحتفال البسيط عام 1426ه. في هذا العام؛ رصدت لجان التنظيم أكثر من 33 فعالية متنوعة، تستهدف شرائح المجتمع، وتحوّل إجازة العيد إلى نزهة ثقافية تحشد في أيامها أفراح العيد، بدءاً من "الدوخلة". وسجّل قرابة ألف شاب وشابة أسماءهم ضمن قوائم المتطوّعين الذين سوف يعملون بلا أيّ مقابل مادي. مهرجان "الدوخلة" فرض نفسه كنموذج سياحي ترفيهي اجتماعي ثقافي في غضون 5 سنواتٍ فقط؛ تغيّرت خلالها النظرة إليه من احتفال شعبي بسيط إلى "مهرجان وطني" تقدمه المنطقة الشرقية لزوارها وضيوفها فضلاً عن سكانها، ووصلت يد الدعم إليه من المؤسسات الحكومية النافذة، والقطاع الخاص. يقول آل طلاق "نحن فخورون بأننا نقدم لبلادنا هذا النموذج الاجتماعيّ على سواعد شبّان وشابات متطوعين يعملون وهم لا ينتظرون شيئاً غير الاستمتاع بخدمة المجتمع". وتلتقط المذيعة عرفات الماجد هذا المعنى، فهي واحدة من ألف متطوّع.. تقول "صرتُ نقطة في بحر من البشر الذين يعيشون وأطفالهم فعاليات ممتعة كل عام".