لا تستطيع النهضة الاقتصادية التي بلغتها الصين أن تخفي عقود المرارة والمعاناة والقهر في ثلاثينات وأربعينات وخمسينات القرن الماضي. ثمة محطّات مؤلمة في تاريخ هذا البلد العملاق تغري، دائماً، بالعودة إليها. ولعل الوسيلة الناجعة في تقصّي دروب الآلام تلك، تتمثل، خصوصاً، في السينما والرواية. ومع أن هامش الحريات في الصين لم يحقّق تقدماً مماثلاً كالذي شهده المنحى الاقتصادي، غير أن عدداً من المخرجين والكتّاب تحايلوا، بهذا الشكل أو ذاك، على الرقابة الصارمة، وكشفوا حقائق محزنة ظلّت مخبأة في أرشيف دولة الحزب الواحد. الكاتب الصيني مو يان، الذي فاز السنة الماضية بنوبل الآداب، يعد واحداً من أولئك المبدعين الذين يجذبهم الحنين إلى الماضي. ضمن هذا السياق يمكن قراءة رواية مو يان «الحلم والأوباش» الصادرة في ترجمة عربية بتوقيع محسن فرجاني عن دار العين (القاهرة - 2013). في هذه الرواية يعود مو يان إلى ثيمته الرئيسة التي تجلت في مختلف أعماله والتي أتت كأغنية ترثي وداعة الريف. الثيمة هذه تكرست عبر توثيق التحولات التي طرأت على الأرياف والقرى، والمعاناة التي عاشها السكان المحليون وهم يتخلون عن تراثهم وموروثهم الشعبي إزاء الخطط الاقتصادية، ومتطلّبات «إعادة التأهيل»، وتنمية المناطق الفقيرة. شعارات برّاقة، ووعود معسولة تردّدت على أسماع سكان تلك الأرياف النائية. لكنهم كانوا يفضلون التشبث بعقائدهم وأعرافهم القديمة بدلاً من الاندماج، قسراً، ضمن طرائق وأساليب لم تتفق، يوماً، مع بساطتهم وتآلفهم الاجتماعي المعهود عبر مئات السنين. لن نعثر في «الحلم والأوباش» على قضايا مصيرية كبرى، ولن نجد أبطالاً خارقين يحققون المعجزات، بل سنرافق مو يان إلى إحدى القرى المنسية في الريف الصيني تعيش عزلتها وهمومها الصغيرة وتنهمك في مشاغلها اليومية الاعتيادية التي دأبت عليها كقانون ملزم، لكنه غير معلن. زمن الرواية يعود إلى أربعينات وخمسينات القرن الماضي، وها هي بساطة الحياة تتدفق عبر سرد مشوق وسهل لنتعرف على بطل الرواية الصبي شوكن (معنى اسمه جذر الشجرة). يعيش مع والديه وجدّيه في صمت وهدوء ماكرين، فسحر الطبيعة يقابله فقر مدقع يرمز إليه الكاتب عبر إشارات وتلميحات حول وجبات الطعام الذي يحرم منها شوكن، واضطراره إلى سرقة ما يقيم أوده، وتحايله على جدّيه كي يحظى ببعض اللقيمات. شوكن يعبر، حقاً، عن المعنى الذي يمثله اسمه. ينتمي بكل جوارحه إلى طبيعة جميلة، آسرة. يعيش وسط الحقول وعلى ضفاف الأنهار. يتقافز في السهول والوهاد ويرتمي تحت ظلال الشجر منسجماً مع مفردات وعناصر الطبيعة التي تفيض بالفتنة والبهاء بيد أنها عاجزة عن تحسين الوضع الاقتصادي لأولئك القرويين الفقراء. ما يميز شوكن هو القدرة على التنبؤ، أو «موهبة الأحلام الكاشفة». يحلم الفتى أحلاماً سرعان ما تتحقق في اليوم التالي. وحين ينذر أسرته أو يبشرها، وفقاً للحلم الذي أباح له بالحدث المنتظر، فإن ذلك يمثل كارثة بالنسبة له، فثمة روح شريرة قد تلبسته، كما تقول العائلة. اضطر الفتى إلى أن يحتفظ بما يعرفه لنفسه كي لا يتعرض للتوبيخ والإهانة. ها هم الأوباش، إذاً، يمارسون الوصايا والزجر. وإزاء قائمة الأوامر والنواهي الطويلة، لا يملك شوكن سوى الرضوخ واحترام الكبار طبقاً لثقافة ريفية تولي اهتماماً بالتراتبية الاجتماعية. الصغار، دائماً، على خطأ، وهم يحتاجون إلى العناية والاهتمام، وعليهم الإصغاء إلى حكمة الكبار والاستفادة من تجربتهم وخبرتهم الواسعة. لكن قائمة الأوصياء والأوباش لا تقتصر على كبار العائلة، بل تطول لتشمل السلطة التعليمية والدينية والسياسية. كل هذه السلطات تجتمع لخنق روح البراءة. وتنفيذاً لمبدأ التعليم الإلزامي يدخل شوكن المدرسة بتشجيع من رجل الدين الغريب؛ المبشّر مورويا. يتخلّى مورويا عن رسالته ورهبانيّته ويتزوّج بامرأة صينيّة من القرية ينجب منها طفلة. لكنّه سرعان ما يموت وتلحق به زوجته. تتبنّى أسرة شوكن الطفلة اليتيمة التي سميت شو يي. المدرسة، هنا، هي رمز للسلطة السياسية التي راحت تمتد إلى عمق القرى والأرياف النائية، لتوطّد سلطة الحزب الشيوعي في البلاد، بالدرجة الأولى، أما التعليم، فيأتي في الدرجة الثانية. هذا الزخم الأيديولوجي بلغ أوجه في ما عرف ب «الثورة الثقافية» التي امتدت من 1966 وحتى 1976. مو يان لا يأبه كثيراً بتفاصيل تلك الإجرءات التعسفية، ولا يثقل حكايته بتواريخ ومعلومات وتفاصيل قد تحول روايته إلى منشور سياسي. يكتفي بالتلميح، ويدرج إشارات عابرة تخدم سرده الهادف إلى توثيق حياة البسطاء والمهمّشين، ليعود في كل مرة إلى بطليه. شوكن وشو يي يكبران معاً، وتتوطد العلاقة بينهما. يلعبان في العراء. يتبادلان الأحاديث الودية، وينتزعان الكثير من لحظات المرح في تلك الوهاد والسهول وخلال الذهاب إلى المدرسة. يتفقان على الزواج ويحلمان بغد أفضل. غير أن الفتى يضطر إلى ترك قريته لاستكمال الدراسة، بينما تبقى رفيقته كي تقوم بأعباء وواجبات البيت وإعالة الأسرة التي تبنتها. تضطر إلى سرقة الحبوب وفول الصويا من الطاحونة بطرق شاقة، وتجتهد في أداء واجباتها على أكمل وجه. في غمرة الحنين إلى قريته وصديقته يحلم شوكن الحلم الأقسى من بين كل الأحلام التي عاشها. لقد حلم بموت الإنسانة العزيزة على قلبه شو يي. رحيلها يضع نهاية للأحلام، ونهاية للرواية كذلك، ويترك في قلب الفتى حسرة لن تمحى، فمنظر شو يي التي انتشلت غريقة من النهر لن يبارح مخيلته في ما تبقى له من حياة. وفق هذه النبرة التراجيدية الشاعرية يرسم مو يان عالمه الروائي الخصب الذي يحتفي بثقافة محلية بدت في طريقها إلى الزوال. يعود إلى حكايات الأسلاف، ويستحضر ملامح وتفاصيل العيش في الريف الصيني. ولا يغفل الكاتب خصوصية البيئة المحلية ونكهة المكان العابق بكل ما هو عفوي وتلقائي. مو يان في هذه الرواية أشبه بسينمائي تسجيلي يوثّق كل ما يقع تحت عين العدسة، وهو يدع شخصياته تتحدث حواراً يتناسب مع مستواها الثقافي، حتى ليخال المرء إنه إزاء قصة مكتوبة بقلم طفل. لكن هذا الأسلوب، بالضبط، هو ما يمنح العمل قيمته، ويتيح للكاتب النفاذ إلى عمق الظواهر والأحداث. هذا المزاج السردي القائم على حرارة العاطفة، ودفق المشاعر يعبّر عنه المترجم، الذي نقل العمل عن الصينية مباشرة، إذ يقول «إن الخلفية والحدث وفصول الكتابة وطبائع الشخصيات والتعيين الوصفي للبيئة، كل ذلك يتحول إلى سيرورة استجابة عفوية لأحاسيس ذاتية».