يصدمنا الروائي الجزائري ياسمينة خضرا (محمد مولسهول) في روايته: «خرفان المولى» - دار الفارابي ( ترجمة محمد ساري) بهذه المشهديات الدموية التي يصف فيها تفجّر غريزة القتل الإرهابي المتعصّب، الذي أغرق قرية غشيمات الجزائرية في تسعينات القرن الماضي، وسواها من قرى مجاورة، تُركت خاوية على عروشها، بعد أن نُهبت وأُحرقت وذُبح سكانها صغاراً وكباراً. وتزداد دهشتنا حينما نعلم أن أهل هذه القرية الوادعة، الذين يظنون أنفسهم يعيشون في «مركز العالم» رغم خمولهم ولامبالاتهم وتبطّلهم، يختزنون هذا الكم الهائل من الضغينة والحقد. وهم من قبل كانوا يقضون أوقاتهم في التسكع والاسترخاء، حتى غدت أرضهم مجدبة وسواقيهم آسنة. حدث التحوّل المخيف لحظة صعود الحركات الإسلامية المتطرفة، بعد أن وضعت حرب أفغانستان أوزارها، وانتشر المحاربون العائدون في معظم قرى الريف الجزائري كانتشار النار في الهشيم. وقد مُهّدت الأرض والنفوس لاستقبالهم، بعد أن تغافل أصحاب العقد والحل عن الجماعات الأصولية وهي تبني خلاياها تحت الأرض، وتتسرّب كما حبات البذور من كيس مثقوب. على هذه الأرض اليباب تأججت الضغائن، وتفاقمت الأحقاد، واشتد أوار الصراع بين رؤيتين للدين: الدين الشعبي العفوي التقليدي الأوليائي الذي تحوطه التعاويذ والخرافات، والدين الأصولي الإقصائي المتزمت الذي سلب من القرية ذاكرتها وروحها الحية، ومن كبارها سلطتهم الأخلاقية، فاتهم الأبناء آباءهم بالارتداد عن الدين ما داموا لا يشاطرونهم آراءهم، تحركهم نوازع متطرفة لا تقبل الوسطية ولا المهادنة، ولا يراعون حرمة أو ذكرى أو كرامة لمخلوق يخالفهم. وعليه، تحوّلت ثورة الأجيال إلى صراع على التأويل الديني (الحاج بودالي وابنه) وتحلّق الشباب حول شيوخهم الجدد، بدلاً من الأئمة السابقين، وأنزلوهم منزلة القداسة والمهابة الأسطورية، فالشيخ رضوان «أينما حلّ تكتسي الأرض التي ركلتها قدماه بعشب مبارك». والشيخ عباس هو الآخر حجر الرحى وبؤرة الاهتمام، يتواتر اسمه على كل شفة ولسان: «قال عباس»، «فكر عباس»، «قرر عباس». أما «قادة»، فيتحول في لحظة مغادرته إلى افغانستان أيقونةً مقدسة، فتتصارع الأذرع والأيدي للمسه، والشفاه للثم عباءته. يروي ياسمينة خضرا أحوال الجماعة الأصولية ومدار أفكارها، فهي تبني حصونها العقائدية اليقينية التي لا تتزعزع ولا تتصدع، وتحيا داخلها وداخل مقولاتها المحدّدة وطقوسها وشعاراتها، وكل ما هو خارجها تناصبه العداء، لأنه من عمل الطاغوت والكفر والجاهلية. لذلك تنشر الكراهية والاستياء على المخالفين، وتَحْجُر على الناس سلوكاً اعتادوه، وتحرّم عليهم ما لم يكونوا محرجين في فعله من قبل. جماعة تفرض قوانينها وأعرافها ورؤيتها تحت طائلة البطش بالمارق، ما دام إيمانها بلا ضفاف وبلا حدود، كما يقول أحد أبطال الرواية. وتعمل على اكتساب مزيد من الأرض، وترسيخ سلطانها على البشر، وتمنح لنفسها شرعية دينية، وحقاً طبيعياً ليس لها، في تخريب الطبيعة وتقويض المعالم التاريخية والحضارية والأثرية، لإرساء معاقلها وثكناتها وملاجئها. وتضع يدها على الإدارات الحكومية والمخافر والبلديات، وعلى أموالها ومكوسها وضرائبها، وتستبيح قتل الأبرياء، وذبح العسكر في مخادعهم، وسلب الموظفين، وقطع الطرقات. وتخلِّف وراءها في نهاية الرواية شجيرات متفحّمة، وبطوناً مبقورة، وأضرحة منتهَكة مبعثرة. أي كل السيمياء الدالة على التدمير والفناء والموت والعدمية. وتجعل أهل القرية يتأقلمون مع هذه الفظائع ويجدون لها التبريرات والمسوغات. يستعيد ياسمينة خضرا، الذي كان في حقبة التسعينات ضابطاً في الجيش الجزائري، الظروفَ العصيبة التي عاشها بلده. ويروي بصفاء ذهني رفيع وبصيرة حادة، المسارَ التدريجي لبناء مكونات العصب الأصولي ومناخاته وروافده البعيدة والقريبة، التي بلغت الذروة مع مرور الوقت، سابراً أغوار النفوس الهشّة والمتمزقة والمرتعبة، وتلك التي ترتكب القتل بدم بارد، باسم القيم السماوية، مازجاً بطريقة أدبية بلاغية استعارية موحية، بين الحب والموت، لاسيما في مشهد أخير لسارة المقتولة، جاعلاً من لحظات الرعب والأهوال القاسية لحظات تبصّر عميق في المصير الإنساني، ولحظات حلم بمستقبل ينبلج من بين شقوق الجدران وركام المنازل ودخان الحرائق. ذاكرة الحرب الأهلية تمتح القصة من ذاكرة جزائرالحرب الأهلية، عبر شبكة من شخصيات تتفاعل مع بعضها سلباً وإيجاباً، لتسهم في تشكيل المسار السردي المتصاعد: «علال» الشرطي الذي يحظى بزوجة هي «سارة» الرائعة الجمال، و»زان» القزم الماكر الذي يجثم على غصون الأشجار مثل الطيور، لتتبُّع ما يحدث في القرية، يجنّده الأصوليون ليكون عيناً لهم على أهل القرية ، لكنه يخدع الطرفين، وينتقم من الجميع ماحياً عاره. وكما «زان» المنبوذ من مجتمعه، كذلك «تاج» الميكانيكي يحاول استعادة كبريائه التي هدرها والده المتعامل السابق مع الاحتلال الفرنسي، فيسعى إلى الاندماج في مجتمع يتحاشاه بسبب ماضي أبيه. وهذه الإشكالية هي «موتيف» روائي متكرر عند كثير من كتّاب المغرب العربي. حيث كان موضوع المتعاملين الذين يسعون الى استرداد حقوقهم الوطنية موضوعاً روائياً أثيراً لديهم. ولكن «تاج» تحيّن فرصة ظهورالأصوليين في المنطقة، فانخرط في صفوفهم، وتحوّل بمدة قصيرة إلى قائد ارتكب المجازر انتقاماً من ماضيه الملوث، وتاريخ عائلته المشبوه، وقبل ان يلفظ انفاسه على يد الجيش الجزائري، يزحف إلى بيت «زان» صديقه، ويجري بين الاثنين حوار يمثل ذروة صراع الإنسان مع ماضيه، وذروة صراع الضعفاء بعضهم مع بعض. ويمثّل «قادة»، معلم القرية، الشخصَ المحبَطَ عاطفياً، إذ لا يستطيع الاقتران بسارة التي تفضّل علال الشرطي عليه، فيهيم على وجهه، ويطلب الصفح من شيخه عباس الذي ينصحه بالابتعاد عنها، لأن المرأة «نبتة سامة». ويرسله إلى افغانستان، ثم يعود لينتقم من سارة وزوجها. أما «داكتيلو» الكاتب العمومي، فشخصية غامضة، وهو متنور، حاذق، وعاشق للكتب. وله عبارة مأثورة عما يجري في جزائر التسعينات: « لقد فُكّ قيد الذئاب، وما على الخرفان إلا الالتحاق بزريبتها» ص 82. ومنها جاء عنوان الرواية. وعنه يقول رئيس البلدية: «إنه يخفي في حديثه أسماكاً تحت الأحجار» . في منزل «داكتيلو» تتواجه بندقية «تاج» الحاقدة الرافضة مع الكتاب، بما يحمل من سعة أفق إنساني، ومن انفتاح عقلي وقبول بالرأي الآخر، وتبصّر في الأمور والأحداث. ولا يتوانى «تاج» من القول لداكتيلو: «إن الكتب الد أعداء الإنسان» (ص 229)، قبل ان يشعل النار في مكتبته، فيقتله معنوياً قبل ان يقتله جسدياً. يوظّف ياسمينة خضرا في سرده «بوليفونية» حوارية، هي موطن من أهم مواطن تبادل الأصوات، المعبّرة عن الأمزجة والطبائع النفسية، والمتراوحة بين الحوار المتشنّج السجالي المشحون بالكراهية والفظاظة بين المتخاصمين (عيسى والخباز) والحوار المراوغ ( زان وإلياس) والحوار ذي البعد الواحد ( الشيخ عباس ومريدوه) والحوار المريب (إسماعيل والداكتيلو) بما يدفع الحركة السردية الى ذروة التفاعل بين مكونات العمل الروائي، لتشكّل بمجموعها ما كانت ترهص به الجزائر من مخاض واحتقان أسفرا عن ذلك المآل المأسوي لهذا البلد.