لم تُثِرْ روايةٌ في القرن التاسع عشر من سوء التفاهم لدى قراء الشعبين اللذين عُنِيا بها، بقدر ما أثارت رواية «مغامرات حاجي بابا الأصفهاني» التي نشرت في لندن خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. صحيح أن هذه الرواية حملت باكراً اسم مؤلفها الإنكليزي جيمس موريير، غير أن معظم الذين قرأوها بالإنكليزية، ثم مترجمة إلى الفارسية، خُيِّل اليهم أنها في الأصل رواية فارسية تُرجمت إلى الإنكليزية، فالأسلوب وصنوف المغامرات التي تصفها الرواية، والأجواء وعادات الشخصيات وحياتها اليومية، كل ذلك أتى حافلاً بصدقية مدهشة أرغمت كثراً على الافتراض بأن أيّ إنكليزي ما كان في إمكانه أن يبدعها على هذه الشاكلة حتى ولو كان قد عاش في فارس طوال سنوات وسنوات من حياته. ومع هذا، بدت الأمور واضحة جداً في نهاية الأمر: أجل، إن جيمس موريير هو مؤلف الرواية، بل أيضاً مؤلف رواية أخرى أتت لتستكملها، واصفة مغامرات حاجي بابا ليس في وطنه فارس هذه المرة، بل في إنكلترا، التي هاجر إليها بعد انتهاء مغامراته الفارسية. ولسنا في حاجة هنا إلى الاستفاضة طبعاً في شرح الأسباب التي جعلت الرواية الثانية عاجزة عن أن تحظى بالنجاح المذهل الذي حققته الأولى، بل نشير فقط إلى أن القراء الذين تابعوا مغامرات حاجي بابا في فارس، واطلعوا من خلاله وخلالها على الحياة الغريبة والمشوّقة في تلك البلاد التي كانت تشاغل مخيلة الغرب كله في ذلك الحين، لم يُبدوا في الحقيقة أيما اهتمام بأن ينتقل بطل المغامرات ذاك إلى إنكلترا، ليعيش فيها مغامرات تخلو من أي قطب جاذب. وهكذا، ظلت رواية «مغامرات حاجي بابا الأصفهاني» فريدة في نوعها، جذابة في أسلوبها وأجوائها، فاتحة الباب للكثير من الكتاب الغربيين الذين راحوا يتفننون في رسم أجواء ومغامرات شرقية، مستقاة إما من المخيلة الفردية أو الجماعية، وإما من أجواء «ألف ليلة وليلة»، تلك الأجواء نفسها التي من الواضح أن موريير قد تأثر بها ورمى إلى محاكاتها في روايته. والحال أن ما ساعد جيمس موريير على أن يكتب هذا العمل الطريف والمسلي، كان سنوات عيشه الطويلة في الشرق، واطلاعه الواسع على الآداب العربية والتركية والفارسية، وتكلُّمه لغاتها وكتابتها بطلاقة، وقيامه لاحقاً -في شبابه- برحلات عدة في بلاد فارس،التي ذرعها طولاً وعرضاً وتعرّف الى عادات سكانها وأحوالها في شكل عام. ونعرف أن ما مكّنه من ذلك وسهّل أموره، أنه قُيّض له خلال بعض تلك الرحلات أن يقوم بمهمات ديبلوماسية عدة لمصلحة السلطات اللندنية. ويقيناً أن هذه المهمات قد فتحت له الأبواب على مصاريعها ومكَّنته من الاطلاع على المكتبات الخاصة والعامة، وارتياد المقاهي، حيث احتك بالأدب الشعبي الشفاهي. وتقول سيرة موريير إنه بعد عودته من أسفاره الطويلة إلى فارس، نَشَر في لندن أولَ الأمر الكثيرَ من النصوص المنتمية إلى أدب الرحلات، والتي اعتبرت في حينه نبعاً للمعلومات حول الشرق وأحواله، ولا سيما في زمن كانت فارس وما جاورها تُعتبر محطَّ مطامع الكثير من القوى العظمى، من الإنكليز الذين كانوا يتطلعون إلى حماية طرق الهند، إلى الروس الذين كانوا راغبين في الوصول إلى المياه الدافئة، وصولا إلى الفرنسيين الذين كان نابوليون قد بدأ يقودهم في دروب المغامرات العسكرية الشرقية. وموريير، بعدما حققت كتب رحلاته نجاحاً كبيراً، بدأ ينشر روايات مفعمة بطعم الشرق ومغامراته. وكانت «مغامرات حاجي بابا الأصفهاني» ذروة ذلك كله. والحال أن هذه الرواية ما إن نشرت، حتى فتنت الكثير من القراء والكتاب، ولا سيما العالم والكاتب الفرنسي غوبينو، الذي اعتاد أن ينصح أصدقاءه بقراءتها، هو الذي كانت سمعته تقول أنه ذو نزعات عنصرية! و «مغامرات حاجي بابا الأصفهاني» هي في المقام الأول رواية مغامرات، وكان موريير يؤكد -وهذا ما أكده من بعده الكثير من دارسي حياته وأعماله- أن أحداث الرواية قد وقعت بالفعل، أو أن لها على الأقل أساساً كبيراً من الصحة، كما أن بطلها ميرزا حاجي بابا قد عاش فعلاً، وأن موريير التقاه مراراً خلال رحلاته، وأصغى إليه بانتباه وهو يروي له مغامراته. واللافت هنا أن يكون موريير قد اختار ضمير المتكلم (الراوي) كأسلوب لحكي أحداث الرواية، حيث تأتي رواية حاجي بابا للأحداث مضفية على النص كله صدقية مدهشة. والرواية تحكي لنا، في فصولها الكثيرة وأسلوبها البيكاري، الذي يذكر إلى حد كبير بأسلوب المقامات، وحيث يحمل كل فصل عنواناً يشرح أحداثه: حياة حاجي بابا المدهشة، وتحركاته «بين قصور أصفهان وأزقة بغداد وبلاط شاه فارس وسلطان إسطنبول». وحاجي بابا، كما تقدمه إلينا الرواية، هو ابن حلاق بسيط يعيش في مدينة أصفهان، ومنذ صباه اضطر الولد إلى أن يمارس عشرات المهن ويخوض المغامرة إثر المغامرة حتى يصل إلى مركز يحسد عليه في بلاط الشاه الفارسي... وهكذا، نجد حاجي بابا تباعاً سقّاءً ومهرجاً وجلاداً وطبيباً، ثم رجلَ دين ومأذوناً، وصولاً إلى أن يتحول بقدرة قادر إلى تاجر محترم في مدينة بغداد، ومن هناك نراه ينتقل ليصبح مستشاراً للوزراء في الآستانة، ثم ديبلوماسياً. وعلى مدى ذلك المسار المدهش، يطلع علينا ذلك المغامر الأفّاق مرةً ساذجاً عفوياً وبسيطاً، ومرة متآمراً لعيناً وماكراً... ومرات نجده يتسم بنزاهة ما بعدها من نزاهة، لكنه «في جميع أحواله يبدو عاشقاً يقوده فؤاده من مكان الى مكان...». ومما يرويه لنا حاجي بابا بنفسه، نستشف أنه عمل خلال مرحلة من حياته سكرتيراً محلياً لجيمس موريير نفسه، وهو برع في عمله هذا بفضل دهائه، وبفضل مقدرته في اللحظات الصعبة على إحالة ضميره إلى الاستيداع. ونلاحظ أن حاجي بابا الذي تتقلب به الأحوال يبدو قدرياً، يقبل السقوط باستسلام، كما يستقبل الارتفاع بحذر، لكن ما لا يساوم فيه إنما هو حبه للحسناء زينب. والحال أن المؤلف، وعبر رسمه الدقيق والودود لشخصية زينب هذه، ينقلنا إلى أجواء حياة الحريم، ومن خلالها إلى الحياة الاجتماعية الفارسية وتنويعاتها. وهكذا، «لا يعود هذا الكتاب مجردَ رواية تسلّينا وتمتعنا وتطلعنا على أحوال مناطق وشعوب غامضة، بل يصبح وسيلة أخلاقية تؤكد لنا أن الأخلاق وقواعد السلوك إنما هي مسائل نسبية في نهاية الأمر، إذ إن ما قد يبدو لغربي متحضر عملاً لااخلاقياً، يبدو طبيعياً، بل ضرورياً بالنسبة إلى حاجي بابا». وتنبع أهمية هذا البعد «من خلال ملاحظتنا أننا في نهاية الأمر نتعاطف مع حاجي بابا ونبرّر له كل تصرفاته مهما بدت لنا غير مألوفة، بل خارجة حتى عن الصراط المستقيم». وبقي أن نذكر هنا أن «مغامرات حاجي بابا» هذه أضحت، مذ نُشِرَ الكتاب ثم تُرجم إلى الفارسية، شهيرةً جداً في فارس نفسها، حيث إن هذا الكتاب، وعلى عكس معظم الكتب الاستشراقية المشابهة، قد لقي إقبالاً وتبناه الفرس في شكل حماسي وقاطع، حتى صار يشكل جزءاً من تراثهم الخاص. ولعل هذا ما سرّ جيمس موريير أكثر من أي شيء آخر. وجيمس موريير الذي ولد، في أزمير بتركيا، توفي العام 1849 في برايتون بإنكلترا، عن تسعة وستين عاماً، ما أتاح له أن يشهد بعينيه النجاح الكبير الذي حققه كتابه هذا، والذي تجلى ليس فقط في نشره مرات عدة وشدة إقبال القراء عليه، وليس فقط في ترجمته إلى لغات عدة، منها الفارسية، بل خصوصاً في أن عدداً كبيراً من الكتّاب الإنكليز -وغيرهم من الأميركيين- قد حاكاه في نصوصٍ من المؤكد أن ايّاً منها لم يبلغ في مستوى الصدقية والإقناع والتأثير ما بلغه هذا الكتاب. [email protected]