كلما غاب فارس يواكيم فترة، قصيرة أم طويلة، عاد بما يشبه المفاجأة الجميلة. ذاك كان ديدن هذا الكاتب المسرحي والمترجم والمؤلف، في ما يعني التأليف من انفتاح على حقول مختلفة، بحثاً وصحافة وتوثيقاً... أما مفاجأته الجديدة فليست مسرحية ولا عملاً مقتبساً على غرار الروايات العالمية التي كتب لها سيناريوات، بل هو كتاب يجمع بين التأريخ الغنائي والشعري كما يوحي عنوانه: «حكايات الاغاني: رحلة القصيدة من الديوان الى الاغنية» (دار رياض الريس). عالم هذا الكتاب ليس غريباً البتة عن شواغل فارس يواكيم الذي يرافق الحياة الادبية والفنية العربية وليس اللبنانية فقط، لكونه عاش فترة في مصر، وعرف عن كثب الحركة الفنية التي كانت تزخر بها القاهرة في الستينات. أما في بيروت فانخرط في الحركة المسرحية والسينمائية والتلفزيونية والاذاعية، كاتباً ومقتبساً للنصوص الروائية، إضافة الى عمله الصحافي الذي ما زال يواظب عليه في المانيا التي آثر اللجوء اليها عندما اندلعت الحرب اللبنانية عام 1975. وكان فارس في أعماله يسلك المسلك الوسط جامعاً بين الاتجاه الشعبي الحقيقي والخط الطليعي الذي جذب الكثير حينذاك من اهل المسرح، أولئك الذين أقاموا المحترفات ورافقوا ثورة المسرح الحديث في الغرب. وتجلت تجربته المسرحية الشعبية من خلال تعاونه مع الفنان النموذجي شوشو (حسن علاء الدين) الذي كتب له مسرحيات وسيناريوات عدة ومنها مسرحيته الشهيرة «آخ يا بلدنا» التي تمثل إحدى ذرى مسرح شوشو. وكتب فارس مسرحيات غنائية لرواد الغناء اللبناني وفي مقدمهم المطربة صباح. في كتابه الجديد يعود فارس يواكيم الى العمل النقدي المرفق بالتوثيق والبحث في الذاكرة الغنائية والشعرية ليكتب ما يسميه «حكايات الاغاني» التي جمعها وعلّق عليها كاشفاً أسراراً كثيرة للمرة الاولى، سواء لدى الشعراء الذين اختيرت لهم قصائد للتلحين والغناء أم لدى الملحنين والمطربين الذين لم يتوانوا عن «خيانة» القصائد حذفاً وتبديلاً في الكلمات والجمل. ولم يتطرق فارس إلاّ الى القصائد التي اختارها الموسيقيون والمطربون من دواوين الشعراء، وليس الى القصائد التي كتبها الشعراء نزولاً عند رغبة هؤلاء الموسيقيين والمطربين، على رغم إلمامه بالكثير من الاغنيات التي كتبت بناء على «الطلب». ويضرب هنا مثلين، الاول هو أغنية «يا شراعا وراء دجلة» التي كتبها أحمد شوقي ولحّنها وغنّاها محمد عبدالوهاب أمام ملك العراق فيصل الأول عام 1931، أما الثاني فقصيدة «سوف أحيا» التي كتبها الشعر مرسي جميل لتغنيها المطربة فيروز لدى زيارتها الاولى للقاهرة عام 1955، وقد لحّنها الأخوان رحباني وأنتجتها إذاعة «صوت العرب». الاغاني التي يتناولها المؤلف كتبت قصائدها إذاً قبل أن تلحّن وتغنّى، وهذا ما يضفي على مشروع الكتاب طابعاً خاصاً، فالشعر الذي اختير في هذه الغاية هو من الشعر الحقيقي البعيد مبدئياً، عن مفهوم المناسبة أو الظرف الآني والافتعال والكلفة. والامثلة كثيرة، ومنها على سبيل المثل: قصيدتا أبي فراس الحمداني «أراك عصيّ الدمع» و «أقول وقد ناحت بقربي حمامة» وقصائد لجبران وأحمد شوقي وعلي محمود طه وإبراهيم ناجي وسعيد عقل وبدر شاكر السياب ونزار قباني ومحمود درويش وسواهم... واللافت أن المؤلف قصّر عمله على القصائد المكتوبة بالفصحى مُعرضاً عن الشعر العامي الذي لُحّن منه - وغُنّي - الكثير، ولعله أصاب في هذا الخيار وتحاشى الوقوع في «مزلق» لا يُعرف الى أين ينتهي به، نظراً الى كثرة الشعر العامي والنبطي المغنّى. ويحدد المؤلف مفهوم «الحكاية» هنا في تدخّل الملحن والمغني في الصنيع الشعري نفسه، سواء برضى الشاعر أم باستغيابه أم بغيابه أو رحيله، إنها الحكايات المقصودة، وهي حكايات فيها من الطرافة ما فيها من الاساءة الى الشاعر وقصيدته وإن كانت الاساءة غير مقصودة. إنها القصائد التي تعرضت للتعديل، فحذفت منها أبيات أو أضيفت إليها أبيات، أو خضعت لتبويب آخر، أو استُبدل بضع من كلماتها ببضع آخر وهلمّ جرا... ويوضح أنّ القصائد التي كان الملحن والمطرب امينين على كلماتها وشكلها لا تُدرج في سياق «الحكايات»، ومنها مثلاً قصيدة «أيظنّ» لنزار قباني التي لحنها عبدالوهاب وغنّتها نجاة الصغيرة. طبعاً هناك قصائد كان من الصعب على المؤلف العثور عليها منشورة أو مطبوعة في كتاب أو صحيفة ليتمكن من المقارنة بين اصلها والاغنية، ومنها أغنية «لقاء» للشاعر المصري صلاح عبدالصبور التي لحّنها كمال الطويل وغناها عبدالحليم حافظ. وهذا بذاته كشف جميل... أن يغني «العندليب الاسمر» قصيدة لأحد رواد الشعر العربي الحديث، مع أنه أهملها ولم ينشرها في ديوانه الكامل. والامر نفسه ينطبق ايضاً على الاغاني التي لم يعثر على تسجيل لها كي يقارن بينها وبين القصائد المتوافرة. ولئن بدا جهد فارس يواكيم جلياً وبيّناً في هذا الكتاب الفريد في حقل العلاقة بين القصيدة والاغنية، فالكاتب لا يدّعي في المقدمة أنه استطاع أن يلم بكل القصائد المغناة، وهذا أصلاً عمل مستحيل، بل بأبرزها من خلال مواكبته الحركة الغنائية طوال عقود. ولا يخفي الشعور بالمتعة الذي ساوره في هذه الرحلة الشخصية التي قام بها بين الدواوين والكتب والصحف والاغاني والتسجيلات على اختلاف انواعها، وهو شعور يخامر القارئ بدوره، عندما ينصرف الى اكتشاف الأسرار الكثيرة التي تكتنف العلاقة بين القصيدة والاغنية. ويتمتع القارئ أيضا ب «الاكتشافات» الطريفة التي وقع عليها المؤلف، ومنها أبيات لأحمد شوقي لم تضمها أعماله الكاملة وقصائد ملحنة لشعراء لا يمكن تصوّر انّ ملحنين اقتربوا منهم من أمثال: العقاد وخليل مطران أو مثل الزعيم المغربي علال الفاسي، ناهيك باكتشافه أنّ خمسة مطربين عرب غنّوا في ألحان مختلفة، قصيدة واحدة للشاعر اللبناني الياس فرحات شبه المجهول في وطنه. المكتشفات أو اللقى كثيرة في كتاب فارس يواكيم، وعرف هو كيف يقدمها ويسوقها معتمداً أكثر من اسلوب في آن، كالسرد والتحليل والتعليق والمقارنة، ساعياً الى كشف «الاعتداءات» البيضاء التي مارسها الملحنون والمطربون على القصائد، برضى الشعراء أو تذمرهم، بعلمهم أو بجهلهم للأمر. والامثلة كثيرة، وليس على القارئ إلا أن يقف عليها في الكتاب. ولكن في أحيان تبدو هذه «الاعتداءات» عميقة و «مؤذية» للقصيدة لمصلحة الاغنية واللحن، فالحذف قد يبلغ شأوه والتعديل لا يراعي القصيدة نفسهاً خصوصاً عندما تنقلب بعض المعاني... وهذا ما أثبته الكاتب ب «الجرم المشهود». لعل السؤال الإشكالي الذي يطرحه هذا الكتاب الجميل والجاد في بحثه وتقصيه، هو: هل يحق للملحن والمغني ان يتصرفا في القصيدة في لحظة تلحينها وأدائها ام عليهما الالتزام بصنيع الشاعر؟