سئل رئيس الوزراء البريطاني السابق هارولد ولسون عن أسباب استقالته المفاجئة على رغم تمتعه بشعبية كبيرة، فأجاب بكلمات قليلة معبرة: «لم يعد عندي شيء جديد أجيب به عن أسئلة الشعب». بهذه العبارة اختتم ولسون تاريخه السياسي وفتح الباب لأسلوب جديد في الحكم والمعارضة يجب أن تتخذ منه جميع القيادات في العالم، ولا سيما في ديارنا غير العامرة، درساً وعبرة... فقد عرف حدّه ووقف عنده وسلّم الأمانة لمن يملك أجوبة ويتمتع بشعبية أكبر ويحمل معه أملاً جديداً وسياسة مختلفة تعمل على حل المشاكل ومواجهة الأزمات والانطلاق في مسيرة البناء والتنمية وتحقيق الأمن والأمان. درس بهذا الحجم لم يستوعبه معظم القادة العرب ونسوا معانيه على رغم أنهم وصلوا إلى نقطة لم يعودوا يملكون أجوبة ولا خطة ولا حلاً ولا حتى قدرة على مواصلة مهامهم والاستجابة لتطلعات الشعوب ومصالح الأمة، فكان ما كان ووقعت الواقعة. جاء الربيع العربي بكل وعوده وآماله وأزهاره ليحمل إلينا بشرى سارة ويضيء شمعة في الظلام ويعد بإصلاح ناجز وحلول جاهزة تنهي الركود وتضع حداً للظلم والقهر والاستبداد والفساد واحتكار السلطة والمال ويعيد التوازن الى الى المجتمعات بإحقاق الحق وتطبيق أسس العدالة وسيادة القانون ومنع استباحة المال العام وتحقيق التنمية الضرورية لحل مشاكل الفقر والبطالة والتطرف والإرهاب. عاد الأمل إلى الجماهير بمستقبل زاهر فهللت للثورات وتفاءلت بالخير لعلها تجده بعدما سقطت أنظمة وتهاوت أنظمة أخرى أو شارفت على الانهيار وتنافس الإعلام على تقديم الوعود البراقة والترويج للأحلام الوردية فخُيّل للبعض أن الأوضاع المزرية قد تغيرت بسحر ساحر وأن آبار السمن والعسل ستتدفق على الناس فيغرفون منها ويتنعمون برحيقها ويطعمون أولادهم ويؤمنون لهم الدواء والغذاء والعلم ومعه الغد والمستقبل للأجيال الصاعدة. أخطأ الرؤساء من قبل بتمسكهم بتلابيب السلطة والمال وتحويل الدولة إلى بقرة حلوب وتمادوا ظناً منهم أنها صارت ملكاً لهم ولأولادهم وأصروا على التجديد والتوريث وصمّوا آذانهم عن صرخات الجماهير وأنين الثكالى والأرامل وأوجاع الفقراء ونحيب الأمهات والأطفال... ثم جاء الربيع لتتجدد الأخطاء ومعها المخاوف وخيبات الأمل لاعتبارات عدة، منها على سبيل المثال لا الحصر: عدم وجود خطط جاهزة لمواجهة الواقع وإيجاد حلول جذرية للأزمات المستعصية والمشاكل المتراكمة. عدم وجود رؤية موضوعية وواقعية وعملية للممارسة في اليوم التالي لسقوط الأنظمة وتسلم مقاليد الحكم من جانب أي جهة. عدم اتفاق الأطراف المعنية على المبادئ الرئيسة للممارسة ولو في حدودها الدنيا، أي في القضايا الرئيسة المطلوبة بإلحاح لإدارة المرحلة الانتقالية. تغليب المصالح الشخصية والحزبية والعقائدية على مصلحة البلاد، فما إن تهاوت الأنظمة حتى برزت إلى السطح عمليات سطو مسلح على الحكم ومحاولات مستميتة للتفرد به وإبعاد الآخرين ورفض الاستماع الى الرأي الآخر أو القبول بالمشاركة والتضامن بانتظار أن يقول الشعب كلمته في انتخابات عامة حرة ونزيهة، وتجلى هذا الصراع والتنافس في كل الحالات وانتهى بخيبات أمل وإثارة المخاوف والسعي لعزل واجتثاث وإقصاء القوى الفاعلة. عزوف الأكثرية الصامتة التي تمثل غالبية الشعب عن المشاركة في الدفاع عن إنجازاتها والمضي في ثورتها السلمية التي انطلقت بسواعد الشباب الأبرياء والقوى الوطنية الشريفة والنخبة المثقفة، وما إن تحقق هدف إسقاط النظام حتى انزوت في بيوتها ولم تشارك في الانتخابات أو في النشاطات الجماهيرية و «المليونيات» المتهاوية. فانقضت القوى المنظمة على الثورة لتجيّرها لمصلحتها وتجرّها إلى سبيل آخر محفوف بالمخاطر. ضرب صدقية قوى الأمن والشرطة وتحويلها إلى عدو للشعب بدلاً من شعارها «خدمة الشعب»، ما أحدث فراغاً هائلاً هدد الأمن الوطني وأمن المواطنين، وتبع ذلك التعرض للقوات المسلحة لتحقيق أهداف خبيثة مماثلة توصل إلى تعميم الفراغ وترك البلاد تحت رحمة القوى والأطراف المسلحة. الاحتكام الى الشارع في كل شاردة وواردة والاستمرار في استغلاله لتحقيق أهداف سياسية وحزبية، ما أدى إلى تعميق الهوة وضرب الاقتصاد الوطني وهروب الاستثمارات والرساميل الوطنية والعربية والأجنبية وفرض منطق الأمر الواقع بالقوة المعراة والبلطجة وتكميم الأفواه واللجوء إلى التنفير والتكفير والتهديد والوعيد وإثارة الرعب لدى كل من يحاول فتح فمه لقول كلمة الحق أو سيل قلمه للتعبير عن رأيه الحر. هذه العوامل تختصر في العامل الأخير المعبر الذي رأينا نماذج منه في الفترة الأخيرة ولا سيما في ردود الفعل الصاخبة على الفيلم المسيء الى الرسول (صلّى الله عليه وسلم)، وما نجم عنه من إضرار بسمعة البلاد ومخاطر كادت تؤدي إلى مجازر وأحداث لا حصر لها. فهذا الفيلم السخيف والمقزز موجود على المواقع الالكترونية منذ أكثر من 7 أشهر ولم يكترث له أحد إلا أخيراً نتيجة لتحريض ترويجي من جانب واضعيه وهم يعرفون سلفاً كيف ستكون ردود الفعل. وبدلاً من إحباط المؤامرة الخبيثة ومنع الصهاينة من تنفيذ مآربهم جاءت ردود الفعل لتخدمها وتحقق ما أرادته منه. فالرسول (صلّى الله عليه وسلم)، أكبر بكثير من أن يسيء إليه أحد مهما كان، و «شانئه هو الأبتر» بإذن الله والرد يكون بحملات حضارية وضغوط جماهيرية وشعبية ودولية من أجل وضع حد لهذه المهازل ومنع أي تعرض للأديان والأنبياء بقرار من الأممالمتحدة وقرارات مماثلة في كل الدول تحت طائلة المعاقبة واتخاذ مواقف عملية ضد مصالح كل دولة تسمح بمثل هذه التفاهات. والمضحك المبكي أن كل ردود الفعل قد همدت وكأن شيئاً لم يكن، بدلاً من اتخاذ خطوات عملية دائمة لمنع تكرار مثل هذه الإساءات. وهذا غيض من فيض بالنسبة إلى ترك الشارع مباحاً على غاربه والخضوع له في كل شاردة وواردة بخاصة أن الغالبية قد ابتعدت عن الممارسات السائدة، تاركة الساحة خاوية للبلطجية والغوغاء والمزاجات والنزعات الفردية والحزبية والغرائز الجامحة التي صارت تتلطى وراء تظاهرات ومسيرات ومليونيات مزعومة لارتكاب جرائم مثل الخطف وطلب الفدية والاعتداء على النساء والممتلكات وارتكاب الموبقات، ما يتطلب حزماً وحسماً ووضع حد للانفلات وفوضى الشوارع. فقد عانت الشعوب العربية طويلاً من الديكتاتورية والظلم، ودفعت أثماناً غالية للممارسات الشاذة من دم أبنائها وحاضرها ومستقبلها وها نحن اليوم نفسح في المجال لديكتاتورية خطيرة هي ديكتاتورية الشارع، التي ستأكل الأخضر واليابس وتقضي على ما بقي من بناء وثورات وآمال. فديكتاتورية الغوغاء هي وصفة جاهزة للدمار الشامل وجواز سفر مجهّز لقوى الظلام وفرق الإرهاب ودعاة العنف والتخلف ومن الظلم أن تترك الشعوب لتواجه مصيراً مجهولاً ومستقبلاً لا أمن فيه ولا أمان، فهي لم تصدق بعد أنها قد تخلصت من أنظمة ديكتاتورية ظالمة وأن آمالها بالحرية والديموقراطية والكرامة والعيش الشريف وسيادة القانون والعدالة والمساواة ستتحقق. هذه الشعوب الحرة تريد أن ترتاح بعد عناء وعذاب وطول غياب، ولم تعد تحتمل عذابات أخرى وخيبات أمل جديدة وديكتاتورية غوغائية تنقلها من «تحت الدلف إلى تحت المزراب» كما يقول المثل الشعبي. * كاتب عربي