الثورات العربية - إن صحت التسمية - هي ثورات لم تأت نتاجا لتطور ثقافي وفلسفي كبير تجاوز فيه وعي المجتمع وعي الدولة كما جرى في الثورة الفرنسية، ولم تأت ثمرة لحزب آيديولوجي منظم كما جرى في روسيا والحزب الشيوعي الذي شارك في الثورة، ولكنه أحسن قيادها لاحقا، ولكن هذه الثورات أو الاحتجاجات جاءت نتيجة الغضب المتراكم جراء الفساد المستشري والظلم الفاحش، وانسداد أفق المستقبل داخليا وخارجيا. ما جرى في مصر في الأسبوعين الأخيرين جدير بالملاحظة والرصد، فثمة محاكمات تترى، ومليونيات تخرج عن مسارها، وهجوم على السفارة الإسرائيلية، تبعه قلق في أميركا، وهناك استقبال أردوغان بهتافات الخلافة وصدمة من طرحه العلمانية كأفضل الخيارات لمستقبل مصر. ظهر في المحاكمات شيء من الاستعجال، وشيء من الفوضى، تسبب فيهما ضغط الشارع، وخرجت مليونية تصحيح المسار في الجمعة قبل الماضية لتتحول لعمليات تخريب واسعة، حاول البعض عزوها لمؤامرة لفلول النظام وتناسى أن الجماهير حين تتحول لغوغاء فإنها أقدر على إيذاء نفسها من أي مؤامرة، وأن الشعب غير الغوغاء ومونتيسكو يقول: «في الحكم الشعبي ذاته، يجب ألا تقع السلطة بتاتا بين أيدي جمهرة الشعب الدنيا». هاجمت بعض هذه الجماهير السفارة الإسرائيلية منتهكة هيبة الدولة والنظام، وغافلة عن الاتفاقات الدولية التي وقعتها مصر وهي ملزمة بها، وكانت ردة الفعل تجاه ذلك مستغربة من طرفين: أميركا وبعض المثقفين العرب، أميركا: حيث عبر الرئيس أوباما عن قلقه تجاه السفارة الإسرائيلية، ولست أدري لماذا؟ أتراه ومستشاريه ومؤسساته حين أطلقوا عبارات «الآن» و«فورا» لم يروا هذا الأمر قادما؟ أتراه كان يرى فعلا أن الديمقراطية والشعارات البراقة قادرة على إلغاء قرون من المفاهيم المعادية لها؟ لقد كانت هيلاري كلينتون تشعر بانتعاش حين أخذت جولة في ميدان التحرير سابقا، ولكن هل تستطيع أن تعيد الكرة في أحد الجمع القادمة؟ أما المثقفون المؤيدون للاحتجاجات - بخلاف كثيرين غيرهم ممن عبروا عن استيائهم - فقد كان لهم موقف مستغرب، فبعضهم لجأ للمؤامرة، وبعضهم اعتبرها ضريبة ضرورية لأي ثورة، وبعضهم وهو الأنكى أيدها ورآها خطوة ضرورية لاستعادة زخم الثورة وتثبيت مكتسباتها! وصل أردوغان إلى القاهرة ليستقبله حشد من شباب «الإخوان المسلمين» بهتاف يقول: «أردوغان، تحية كبيرة من (الإخوان). مصر وتركيا خلافة إسلامية» كما نشرت هذه الصحيفة الخميس الماضي، ولكن أردوغان جاء بأجندة أخرى، إنه لم يأت بعمامة الخليفة الإسلامي، بل جاء ببدلة رئيس تركيا العلمانية، يفتش عن مصلحة بلده ويخاطب الجماهير التي انتخبته هناك، ويرافقه مئات التجار الأتراك. المصلحة تقوده لا الآيديولوجيا بخلاف مستقبليه. وللمفارقة فبالمقابل خرج أيمن الظواهري ليقول: «إن الشعوب العربية تريد الإسلام وحكمه» وانتقد أميركا وحاول تجيير الانتفاضات العربية لصالحه، أردوغان والظواهري إسلاميان وكل منهما يسعى للزعامة الإسلامية، طريقاهما مفترقان تماما، بناء على ظروف كل واحد منهما والخط الذي أملته عليه ظروف التطور التاريخي الذي مر به. الفرق أن أردوغان يمثل نموذجا متقدما عن الحالة الإسلامية في المنطقة العربية، بناء على ظروف بلده تركيا وطبيعة دولتها ومؤسساتها، بينما الظواهري يمثل نموذجا متخلفا عنيفا شمسه آيلة للغروب، وإن لم تغب بعد. ردة فعل «الإخوان» تجاه تصريح أردوغان تشير إلى أنهم فكريا لما يزالوا أقرب للظواهري منهم لأردوغان المدني الذي لطالما تغنى به أصوليو المنطقة، فالشريعة لا المدنية هي الثيمة الأصلية في تفكيرهم. إن المحور الأصولي الجديد الآخذ في التشكل بالمنطقة لن يكون أردوغانيا ولا ظواهريا، ولكنه سيتبع خطا بين الاثنين، لن يكون أردوغانيا لأن طبيعة الدول التي يستهدفها والجماعات فيها تجبره أن يلعب على توازنات تختلف جذريا عن توازنات أردوغان، ثم إنهم يشعرون، أي أصوليو المنطقة، بأن الحكم والسلطة باتا قاب قوسين أو أدنى من السقوط في سلالهم. كما لن يكون ظواهريا ولا قاعديا لأنهم يريدون أن يستبدلوا ديكتاتورية الدولة بعنف «القاعدة»، أي أن يصبحوا قادة السلطة القادمة وبالتالي يشكلون محورهم الخاص الذي يرغب بعضهم أن يراه ممتدا من تونس إلى مصر ومن سوريا إلى اليمن. لأصوليي المنطقة حساباتهم المختلفة، يقودهم «إخوان» مصر، الذين يسعون جهدهم للم صفوفهم وتوحيد تنظيمهم، في ظل الفوضى أو انعدام الرقابة، ولا يبالون كثيرا بانشقاقات صغيرة في الداخل أو افتراقات في الخارج كما فعل أردوغان، وردة فعلهم تجاه تصريحه حول العلمانية خير دليل، بل جل تركيزهم هو أن يصنعوا نموذجهم الخاص والجديد في المنطقة، حيث يتحالفون في مرحلة الفوضى مع المجلس العسكري في مصر، ويتحاورون مع أميركا والغرب، ثم يدعمون حزبهم ليحظى بأغلبية وإن ضئيلة ليتحكموا في المرحلة الانتقالية، ثم يفرضون سيطرتهم على الدولة والحكومة والشارع. السلفيون رقم صعب في المعادلة في شتى البلدان، ولكنهم دون وعي سياسي، والتناقض بين آيديولوجيتهم ومصالحهم يصيبهم بالعمى، ومن هنا فرغم ضجيجهم في مصر في جمعة الشريعة، ورغم تقديم عدنان عرور نفسه كقائد للثورة في سوريا، فإنهم سرعان ما سيستغلهم «الإخوان» لمصالحهم إن من حيث الدفع والتحريض وإن من حيث المنع والاعتراض. ونستحضر هنا ما قاله خلدون النقيب في كتابه «الدولة التسلطية»: «يعتبر مصطلح (القوة الاجتماعية) المصطلح المركزي لكل علوم السياسة، ويستعمل للدلالة على مقدرة شخص أو مجموعة من الأشخاص على تحوير سلوك الآخرين وتعديله لتحقيق نتائج مقصودة أو متوقعة، حتى ولو كان ذلك خلافا لرغبتهم أو رغم مقاومتهم» ص 18. تناقضات المشهد كثيرة، ومصالح الأطراف متعارضة، وفي لحظات الفوضى يصبح الغوغاء مؤثرين ولكن قيادهم سهل للأكثر تنظيما وقوة على الأرض، ومن هنا فالخطر ليس من الغوغاء فقط بل من خطر تحويل الدولة المدنية في مصر إلى دولة ملتحية. نقلا عن الشرق الاوسط