لم يحقق الأخضر الإبراهيمي اختراقاً في جدار الأزمة السورية المسدود. غاب منذ فترة عن الصورة تاركاً الصراع يأخذ مداه، فتصاعدت حدة المعارك على الأرض وسط تقدم ملحوظ لقوى المعارضة المسلحة التي نشطت على خط تنظيم صفوفها عبر «ائتلاف» كسب سريعاً اعترافاً دولياً وعربياً واسعاً. في الأثناء تحركت المعارضة «الداخلية» لتعقد مؤتمراً هزيلاً في طهران كان أشبه بندوة ينظمها النظام في دمشق، وذهبت «هيئة التنسيق» إلى موسكو لتستمع إلى خطاب روسي قديم ولتكرر أمام مضيفيها ما يحبون سماعه عن رفض للتدخل الخارجي وحرص على الحل «الداخلي». دخلت سورية في المأزق منذ أشهر عدة ولم تعد لمبادرات التسوية القائمة على حوار بين طرفي النزاع أية قيمة، المعارضة لا تقبل بأي حل مع وجود الرئيس بشار الأسد على رأس السلطة والأسد يرفض الحل قبل القضاء على «العصابات المسلحة». واشتد القتال كي لا تلوح في الأفق إلا النتائج المترتبة عليه، فإما هزيمة للنظام، غير مستبعدة في المدى المنظور، وإما مزيد من الاهتراء الداخلي يزيد حدة عوارض الاحتراب الأهلي والفوضى الاجتماعية المسلحة، ويفاقم المخاوف بين طوائف ومذاهب المجتمع. الحرب الأهلية تعبير يتردد بإلحاح شرقاً وغرباً، النظام يسعى إليها بحسب آراء معارضين ومحللين، وحلفاء له في طليعتهم موسكو بكروا في الحديث عن تمزق البلاد وضرورة حماية الأقليات. بدا تضخيم المخاوف بشأن هذه الحرب أو الاقتتال شرطاً ضرورياً لانضاج فكرة يتم طرحها منذ الأشهر الأولى للصراع الذي اندلع في آذار (مارس) 2011، قوامها ضرورة التدخل العسكري الدولي، ليس لمساعدة الثوار في معركتهم مع السلطة، وإنما لوقف الحرب الأهلية ومنع امتدادها إلى دول الجوار. وإذا كان الشرط الأول (الأهلي) للتدخل العسكري الخارجي بلغ النضج أو هو في طريقه إلى النضوج، فان شرط المخاطر الإقليمية يتحرك بدوره مع احتدام التوتر على الحدود التركية السورية والتراشق السياسي العراقي التركي من جهة ومحاولات النظام السوري إثارة الفوضى في لبنان وفي الأردن من جهة ثانية. يضاف إلى ذلك المناوشات في الجولان التي لم تصل إلى حد إثارة مخاوف إسرائيل من صدام مع القوات النظامية المنضبطة منذ 1974، قدر ما أثار قلقها نوايا المعارضة المسلحة التي تقضم الأراضي المواجهة لخط الجبهة. وربما كانت الردود الإسرائيلية بنيران محدودة على طلقات وصفتها ب «الطائشة» امتحاناً لقوى الثورة السورية أكثر مما هي ردع لهجمات محتملة من جانب القوات النظامية. المخاطر الإقليمية لتمدد النزاع وأثره خصوصاً على أمن إسرائيل، يمكن أن يدفع مجلس الأمن إلى اتخاذ موقف عجز سابقاً عن اتخاذه في شأن سورية، وهو مثلما جمع منذ أسابيع الشرق والغرب حول قرار بمواجهة التطرف الإسلامي في شمال مالي فإنه سيجمع الروس والأميركيين في قرار تفرضه مصالح الأمن الإسرائيلي وضرورات «وقف التوتر الإقليمي» الذي يثيره استمرار الأزمة في سورية. مع ذلك يخطئ من يظن أن خيار الوصول إلى تدخل دولي يضع اليد على سورية لم يكن مطروحاً منذ البداية. ليس كل شيء مكتوباً كما في الروايات لكن البناء على المواقف المتوقعة و «تزييتها» قليلاً سيقود حتما إلى نتائج مرغوبة. فإصرار الأسد على المواجهة بدل الاستجابة للمطالب الشعبية البسيطة جعله حصاناً رابحاً في خطة انهاك سورية التي يريدها كثيرون، واستعجال القوى الغربية التصويت باكراً في مجلس الأمن على قرارات تدين الأسد، مع علمها بأن الروس والصينيين لن يوافقوا وسيلجأون إلى استخدام حق النقض، لا يمكن اعتباره حرصاً على شعب سورية وانتفاضته من أجل الحرية والكرامة، قدر ما كان استعجالاً لشل المؤسسة الدولية الأقدر على الحسم ومن ثم الجلوس وراء الموقف الروسي والقول للمتألمين والضحايا: لا يمكننا فعل شيء. الفيتو قائم... إذن الشرعية الدولية عاجزة ومعطلة. طالت الأزمة ودمرت سورية إلى حد كبير. ومن يسأل؟ الإيرانيون ليست سورية بالنسبة إليهم أكثر من رأس جسر. الروس أيضاً... في نهاية الشهر العاشر من هذا العام (تشرين الأول/أكتوبر) التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خبراء «نادي فالداي» الذي تنظمه موسكو على غرار «دافوس» مصغر. خرج البروفسور التركي حسين باغجي وهو نائب مدير معهد الدراسات السياسية الخارجية في أنقرة من الاجتماع مع بوتين بانطباع أبلغه إلى وكالة «أنباء موسكو» الرسمية مفاده أن «روسيا عازمة على الحفاظ على علاقاتها المتميزة مع تركيا في المجال الاقتصادي في المقام الأول وإسرائيل على الصعيد السياسي، بالدرجة الأولى». قد لا تكون انطباعات الخبير التركي دقيقة إلى حد الكمال، لكنها إشارة إلى الاهتمامات التي تشغل الحليف الأول للنظام في سورية الذي حرص على زيارة إسرائيل في خضم الاشتباك السوري ليسمع من قادتها تقييمهم لمجريات الأحداث في الجارة الشمالية. وفي هذه الأيام يحل بوتين ضيفاً على تركيا غداة قرارها نصب صواريخ باتريوت على حدودها مع سورية ويستقبل في أنقرة مع افتتاح مركز القيادة البرية لحلف شمال الأطلسي في أزمير الذي باشر أعماله رسمياً يوم الجمعة (30/10/2012). روائح التدخل العسكري تفوح غرباً لكنها انتشرت شرقاً قبل ذلك بوقت طويل. ففي حزيران (يونيو) الماضي نقلت الصحافة الروسية عن مصادر في وزارة الدفاع في موسكو أنه يجري إعداد خطة لاستخدام القوات المسلحة خارج البلاد. وأضافت أن سورية هي أحد البلدان المحتملة لقيام القوات الروسية بعملها في الخارج. وقال نيقولا بورديوجا الأمين العام لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تتزعمها روسيا إن مشاركة قوات من المنظمة في عمليات حفظ السلام في سورية أمر وارد. وفي الواقع فان فرقة بسكوف للإنزال الجوي أجرت تدريبات مكثفة على عمليات التدخل في الخارج كما تستعد وحدات خاصة من الشيشان التي شاركت كتائبها في عمليات حفظ السلام في جنوب لبنان عامي 2006 و2007 ولعبت دوراً في الحرب مع جورجيا في 2008. واستعداداً للتدخل في سورية قامت مجموعة خاصة من لواء مشاة البحرية تابع لأسطول البحر الأسود بمناورات شملت زيارات لطرطوس... نهاية الأسبوع الماضي أطلق الإبراهيمي صرخته أمام الأممالمتحدة مطالباً ب «قوة حفظ سلام كبيرة وقوية». دعوة المبعوث الدولي الثاني هذه إشارة إلى فشل النظام في حربه على «العصابات» من جهة، وإلى نضوج مشروع التدخل العسكري الدولي من جهة ثانية، وهو سيحتاج قراراً من مجلس الأمن ستوافق عليه روسيا باعتبار أنه سيكون ممهوراً بطلب رسمي من حليفها بشار الأسد الذي سيدخل بلاده مرحلة توزع الحمايات العربية والأممية استعداداً ربما لطائف... سوري.