بضعة أمتار في وحدة القياس الجغرافي وآلاف الكيلومترات في وحدة القياس الاجتماعي تفصل بين غرفة «قصر الاتحادية» حيث جرى لقاء الرئيس محمد مرسي مع التلفزيون الرسمي، وبين المنصة التي شهدت خطبته الأسبوع الماضي. ليلةٌ بدأت عصيبة ومرت دقائقها ثقيلة وتفاصيلها رهيبة، ثم ضحك الجميع وفرح. كان ليل أول من أمس ليلاً تلفزيونياً بامتياز، رغم تأزم المشهد السياسي وتعقد المشهد الأمني واستفحال المشهد الاقتصادي. التصق الجميع بالشاشات المتاحة، في غرف الجلوس المنزلية، ومقاهي الشوارع الشعبية، وبلازما النوادي الراقية، وفي قلب ميدان التحرير حيث «للثورة شعب يحميها». كان الالتصاق مزدوجاً، فلقاء الإعلامي محمود سعد مع «الأب الروحي» للثورة وأحد أكثر الشخصيات السياسية إثارة للجدل محمد البرادعي بدأ قبل نحو ساعة من حوار الرئيس المرتقب والمسجل والذي تحدد موعد بثه في تمام العاشرة مساء. ولأن البرادعي ومرسي يقفان على طرفي نقيض بين طرف «للثورة شعب يحميها» حيث الاعتراض على «سلق الدستور» وشيّ الشعب في نيران الدولة الدينية، وآخر يقول إن «لمصر رباً يحميها»، حيث الاعتراض على كل ما لا يرتدي عباءة الدين والمتسائل: «لماذا نسلق الدستور إذا كنا قادرين على تحميره؟»، فقد تجيش المصريون بين هذا وذاك، بين معارض ومؤيد، لكن اجتمع الكل على المقارنة بينهما. ولأن كلمات البرادعي ومواقفه السياسية الرافضة لما يحدث في مصر حالياً، كانت مباشرة وغير قابلة لسوء الفهم وغير محتاجة للترجمة أو الدبلجة أو قراءة ما بين السطور، استحوذ حديث الرئيس على الجانب الأكبر من محاولات التفسير والفهم، إضافة إلى جهود التحليل والتنقيب، ومعها قدر من الدعابة السوداء. «الشعب يريد فهم الحديث» كان الشعار الذي رفعه كثيرون في الدقائق الأولى، إذ بدا أن مرسي عاقد العزم على التطرق إلى قضايا بعينها ومواضيع دون غيرها، وهو ما دعاه إلى المضي قدماً في الحديث عما يود قوله بغض النظر عن فحوى السؤال. وقد اعتقد بعضهم بأن شريط الحديث تعرض لعطب ما أدى إلى تغيير ترتيب الأسئلة، فجاءت لا تمت بصلة إلى الإجابات. وتعرض آخرون لدوار شديد بسبب محاولاتهم الحثيثة للتركيز، وهي المحاولات التي باء كثير منها بالفشل تحت وطأة الجمل الاعتراضية المتواصلة التي استخدمها الرئيس من دون إكمال للجملة الأصلية. أما أولئك الذين نجحوا في عبور محنة الجمل الاعتراضية، فلاقوا صعوبة في تجاوز المشاعر الفياضة التي حفل بها الحديث على حساب المعلومات والمواقف، خصوصاً أن الرئيس أسهب في الحديث عن ضرورة أن يكون المصريون «جسداً واحداً وحضناً واحداً»، وأن «هناك حباً شديداً جداً» وأن الطريق لعبور الأوضاع الصعبة «أن نحضن بعضنا» بعضاً، و «نشتغل الصبح ونتظاهر بعد الظهر. نحضن بعض»... وغيرها من الإشارات العاطفية الجياشة التي استقطعت من الجانب المعلوماتي للحديث. لكن هذا لا يعني غياب هذا الجانب تماماً، إذ سئل الرئيس عدداً من الأسئلة الساخنة التي تهم قطاعاً عريضاً من المصريين، فمثلاً: سُئل عن وضع المسيحيين ورأيه في هجرة الكثيرين منهم خوفاً من حكم الإخوان، وهو ما نفاه الرئيس، مؤكداً أن «المسيحيين يحبون مصر، وفي ناس بتروح، وآخرون يجيئون، وأغلب من في الخارج هم مسلمون». كما سُئل عن قرض صندوق النقد الدولي الذي سبق وعارضه في شدة قبل أن يتبوأ منصب الرئاسة، فأكد سابقَ معارضته له، كما أكد أن مصر في حاجة إلى القرض، مشيراً إلى ضآلة قيمته (4.3 بليون دولار)، وهي القيمة التي يعجز كثير من المصريين عن فهمها أصلاً، نظراً إلى ضخامتها. ونظراً إلى القيمة الرمزية لرغيف العيش الذي يلهث وراءه المصريون، والذي تصدر هتافات الثورة الأصلية، سُئل الرئيس عنه، فردّ رداً أسكت الجميع، حين قال إن «العيش من دون حرية غير مفيد، والحرية التي لا تجلب العيش غير مجدية أيضاً». وعلة السكوت صعوبة ما ورد في الرد، الذي وجده بعضهم عصياً على الفهم، وخشي آخرون أن يكون قصد أن لا حرية ولا عيش. وفي السياق المعلوماتي ذاته، سُئل الرئيس عن مخاوف من اندلاع عنف في الفترة المقبلة، وهو ما لم يسمعه، وبتكرار السؤال قال: «لا، المصريين ما يعملوش كده». هذه الطمأنة التي حاول الرئيس أن يبثها لم تصل إلى بعضهم، إما بسبب عدم الفهم، أو عدم التصديق، لكن الجميع فهم ما قاله الرئيس عن عدم ارتدائه قميصاً واقياً، وهي العبارة الشهيرة النابعة من الموقف الشهير في خطبته الشهيرة أمام جمع «الإخوان» والسلفيين الشهير في ميدان التحرير الشهير عقب إعلان فوزه بالرئاسة. ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن السؤال الذي وُجِّه إلى الرئيس عن الانتقادات التي وجهها بعضهم إليه حين اختار أن يخاطب المصريين قبل أسبوع من خلال الوقوف على منصة نصبها «الإخوان» والسلفيون الذين تم حشدهم بالباصات من أجل دعم قراراته «الدستورية» الأخيرة، قوبل بالتأكيد على أنه وجّه حديثه إلى كل المصريين، وهو ما لم يقلل غضبَ نصف المصريين جراء انحياز رئيسهم للنصف الآخر. ودائماً ما ينجح المصريون في إعلاء شأن الضحكة على المواقف الصعبة حتى وإن كانت محملة بالأسى. فهناك تأكيدات أن الرئيس «أوت دور» أفضل منه «إن دور»، في إشارة إلى روعة خطبه الدينية التي يلقيها على أنصاره على المنصات في الهواء الطلق أو من على منابر المساجد. آخرون تفكهوا بأن الحديث سيحرك سوق الكتاب الذي طال ركوده، إذ يتوقع أن يتم «طرح كتب خارجية (تقوية) لشرح ما ورد في الحديث»، إضافة إلى «قواميس عربي–مرسي ومرسي–عربي». ومال فريق إلى الجانب الرومانسي، وتساءلوا: «ليه تنتخب رئيس يحكمك لما ممكن تنتخب رئيس يحضنك؟». خلاصة خرج بها فريق آخر من الحديث، وهي أن «الخيارين المتاحين من الرئيس مرسي هما: إما إعلان دستوري شمولي، أو دستور ديكتاتوري». وهناك من شطح به الخيال إلى أبعد من ذلك، فأكد أن أعضاء ومحبي الجماعة لو سمعوا مثل هذا الحديث قبل الانتخابات الرئاسية لانتخبوا منافسه الفريق أحمد شفيق. ويظل هناك نصف مليء في الكوب، إذ فجر الحديث كثيراً من الإبداع والتحركات، فخرجت هتافات من وحي الكلمات: «حضن كبير بوسة قوية برضو هنلغي التأسيسية»، كما توجهت إلى التحرير فئات من المصريين لم تكن تنتوي الخروج بدافع من الرغبة في أن «الشعب يريد فهم الحديث».