تبدو مشكلة العلاقة المتشابكة بين الإرهاب ووسائل الإعلام أكثر تعقيداً، مما يخيل للوهلة الأولى عندما توضع على مشرحة التحليل والبحث. وهذه المعضلة تحاول الاكاديمية الدولية للتلفزيون في روسيا التوصل إلى آليات لمعالجتها للعام الثامن على التوالي، خلال مؤتمر «الإرهاب ووسائل الإعلام الإلكترونية» الذي يُعقد سنوياً في ليماسول القبرصية ويجمع خبراء وإعلاميين من عشرات البلدان. وشهد المؤتمر الذي ينظم بالتعاون مع اتحاد الصحافيين في قبرص واختتم أخيراً، أحدث جولات النقاش بحضور ممثلين ل 23 بلداً، بينها سورية والأردن ولبنان ومصر من العالم العربي، وكانت إسرائيل حاضرة بطبيعة الحال، فهي الضيف الذي لم يتغيب عن كل الدورات السابقة للمؤتمر. يسعى المؤتمر إلى تبادل الخبرات في آليات مواجهة مد الارهاب عبر الإنترنت، ومحاولة وضع ضوابط تحكم عمل وسائل الاعلام خلال تغطياتها للحدث الارهابي بهدف تقليص احتمالات استخدام البث المباشر أو الخبر العاجل بطريقة تخدم أهداف الإرهابيين أو تروج لدعايتهم. لكن النقاشات التي غدا كثير منها مكرراً خلال السنوات الثماني الماضية، لم تعد تقتصر على ذلك البعد، وبرز في أكثر من جولة نقاش خلاف مهم بين وجهتي نظر، تميل الأولى التي يطرحها الروس في الغالب إلى معالجة الموضوع عبر إرساء قيود مشددة قد تصل إلى حد فرض رقابة شاملة ووضع محظورات وقيود على عمل الاعلاميين، بينما يجادل ممثلو بلدان غربية بالقول إن العالم الافتراضي لم يعد من الممكن التحكم به، والأفضل هو وضع معايير أخلاقية تقلص قدرة الإرهاب على الوصول إلى المتلقي، وزيادة الجهد لبث دعاية مضادة في الجانب الآخر. ولتوضيح الفكرة التي يدور في شأنها نقاش ساخن، أورد أحد المشاركين في المؤتمر تجربتين روسيتين تميز كل منهما بالمرارة ورائحة الدماء، وكان لأداء وسائل الإعلام خلالهما دور أساسي ساعد في تحقيق أهداف الإرهابيين. الأولى كانت في حزيران (يونيو) 1995 عندما هاجمت مجموعة يصل عدد أفرادها إلى 160 مسلحاً يقودهم أمير الحرب الشيشاني شامل باسايف، مستشفى ولادة في مدينة بوديونوفسك الروسية، واحتجزوا نحو 1500 شخص. بعد خمسة أيام بدت للروس طويلة جداً، تابع عشرات الملايين منهم في بث مباشر نقلته محطات التلفزة الفيديرالية محادثات أجراها على الهاتف رئيس الوزراء آنذاك فيكتور تشورنوميردين مع زعيم المجموعة الإرهابية أسفرت عن صفقة، انسحب بموجبها المسلحون من المستشفى بغطاء بشري من 123 رهينة بينهم عشرون صحافياً أطلقوا لاحقاً. كانت روسيا كلها شاهدة على تسجيل باسايف «انتصاراً صارخاً» نقل على الهواء مباشرة، وكلف البلاد أرواح نحو 200 قتيل غالبيتهم من النساء والأطفال، وخسائر مادية فاقت 95 بليون روبل. الحادث الثاني وقع في موسكو في تشرين الأول (اكتوبر) 2002 في مسرح دوبروفكا، عندما احتجز نحو 55 انتحارياً نصفهم من النساء قرابة 1800 رهينة، وتابع الروس ومعهم الخاطفون داخل المبنى على الهواء مباشرة كل تحركات الأجهزة الأمنية حول المبنى والمناطق المحيطة به، وحتى القناصة الذين تموضعوا على أسطح المباني المجاورة كانت العدسات ترصدهم لحظة بلحظة. في المثالين كما يقول الروس دليل واضح على أن غياب تنسيق الجهد الإعلامي مع الأجزة الخاصة يسفر عن خسائر فادحة ويعرض حياة كثيرين للخطر في أوقات الهجمات الإرهابية. مسائل وجدالات لكن هذا النقاش كله، لا يعدو كونه واحداً من جوانب المعضلة التي يطرحها المؤتمر. فمثلاً كان السؤال عن «الصور التي لا ينبغي للكاميرا أن تنقلها للمشاهد تحت أي مسميات» مثار جدل عنيف، ومن ذلك صور الأشلاء التي لا تجد عذراً لعرضها عندما يقول مقدم النشرة للمشاهدين إنها قاسية و «ننصح ضعاف القلوب بعدم مشاهدتها». ومن ذلك أيضاً رسائل الإرهابيين ونداءاتهم. وبرغم أن البعض جادل في أن الارهابيين يجدون على الشبكة العنكبوتية بديلاً من التلفزيون لا يمكن مواجهته، فإن مشاركين في النقاشات أوردوا أمثلة عن حالات أسفر فيها البث التلفزيوني لمقاطع من هذا النوع عن تطورات كارثية. وبعيداً من نقل «المشهد الإرهابي» ذاته، أو صانعه، تطرق النقاش إلى مسألة جدلية أخرى تتعلق ب «أخلاقيات» بث مشاهد قد تسفر عن تعزيز الضغائن والنعرات القومية أو الطائفية أو الدينية. مثل تسابق مؤسسات إعلامية لعرض الفيلم المسيء الى الاسلام أخيراً، وذكر أحد المداخلين مثالاً آخر عندما خسرت غزة متعاطفين أميركيين كثراً بعدما نقلت شبكات التلفزة العربية الكبرى من هناك احتفالات صاخبة بهجوم 11 أيلول (سبتمبر). اللافت أن جزءاً مهماً من الجدل الساخن، أبرز خلال جلسات المؤتمر حجم التباين بين خبرات وسائل الإعلام الروسية ونظيراتها في الغرب في التعامل مع عدد من القضايا المتعلقة بمسائل الإرهاب ونشاطات تغطيته. ومع أن الإعلام الحديث في روسيا خاض تجربة غنية خلال السنوات العشرين الماضية، فإن تلك التجربة ما زالت «فتية» مقارنة بالخبراتالغربية، وهذا على الأقل ما أظهرته واحدة من ورشات العمل خلال المؤتمر خصصت لمناقشة أوضاع الصحافيين في المناطق الساخنة، أو آليات العمل في ظروف الحرب. وكمثال فإن كل التدابير المتعلقة بتقليص الأخطار على عمل الصحافي الروسي في مناطق ساخنة تبدو ارتجالية ولا تستند إلى قوانين وأعراف غدت طبيعية جداً في الغرب، من مرور رجال الاعلام بدورات تأهيل خاصة قبل ارسالهم إلى الحرب، مروراً بتفاصيل تبدو تقنية لكنها لا تقل أهمية مثل الحصول على بوليصة تأمين على الحياة لا تكون مجرد اجراء روتيني كما هو حاصل حالياً في روسيا، وصولاً إلى كثير من التفاصيل التي تكون غالباً حبل نجاة في مواقف صعبة. وكشف رئيس أكاديمية التلفزيون الروسية اندريه ليسينكو، وهو المنظم الفعلي للمؤتمر، عدم وجود نقابة للصحافيين في روسيا تنظم هذه المسائل، وقال إن نقاشات تدور حالياً لتأسيسها بعدما غدت حاجة ملحة. الشرق الأوسط وكان من الطبيعي أن يكون للتطورات الجارية في الشرق الأوسط وآليات تغطيتها حصة من النقاش في ورشة عمل خاصة حملت عنوان «التحديات الإقليمية الجديدة في الشرق الأوسط... دور وسائل الإعلام ومكانتها». وطغت نقاشات ساخنة على هذا الجانب خصوصاً مع ميل جزء كبير من الحضور الروسي إلى تبني «نظريات المؤامرة الغربية» عند التطرق إلى الربيع العربي وتداعياته انسجاماً مع الموقف الروسي الرسمي. أما في جانب التغطيات الإعلامية، فقد فتح نقاش الوضع في الشرق العربي على جملة من العناصر التي برزت خلال العامين الأخيرين بقوة ومنها: حال الانقسام الواسعة النطاق التي سيطرت على وسائل الإعلام العربية ما أسفر عن فقدانها رصيداً كبيراً من الجمهور. ولاحظت مداخلات أن المتلقي العربي فقد الثقة إلى حد بعيد بوسائل الإعلام الوطنية في بلده ومثال سورية واضح في هذا الشأن، لكنه فقد الثقة في المقابل بمحطات التلفزة الفضائية التي تحولت من ناقل للخبر إلى جزء من الحدث في منعطفات عدة. وتحولت مشكلة التعامل مع «الشاهد العيان» إلى مادة جدلية، بعدما تحول من عنصر مساعد في المادة الصحافية إلى صانع لها في كثير من الأحيان، خصوصاً أن آلاف الشهادات التي ينقلها «شهود عيان» يومياً من مناطق المواجهات لا تخضع في الغالب لتدقيق كافٍ. أما العنصر الثالث فهو المشكلة الأخلاقية في التعامل مع تغطيات الحدث الساخن، وهي مشكلة كانت حاضرة بقوة خلال جلسات المؤتمر في السنوات السابقة، وعادت إلى الواجهة أخيراً، من خلال مثال تقرير تلفزيون «دنيا» السوري عن مجزرة داريا، عندما ظهرت المراسلة محاطة برجال الأمن والجيش تتجول بين الجثث وتتحدث مع ضحايا جرحى ومرعوبين لتأكيد وجهة نظر النظام حيال الحادث، بينما تم تأجيل وصول المسعفين إليهم حتى تنتهي من تقريرها. وفي البعد السياسي للنقاشات حول الوضع في الشرق الأوسط، لم يكن للمؤتمر أن يمر من دون وقوع مشادات كلامية ساخنة بين بعض الحضور العربي وممثلين لدوائر روسية، خصوصاً بعدما حمل أحد الحاضرين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف المسؤولية عن حمام الدم في سورية. وكان لافروف وجه في جلسة الافتتاح رسالة إلى المؤتمر أعرب فيها عن اقتناعه بأهمية الحوار بين ممثلي وسائل الإعلام والخبراء والمتخصصين لتوحيد الجهود في مواجهة الإرهاب. لكن المشادات الكلامية بين الروس والحضور العربي لم تقتصر على انتقاد الموقف الروسي حيال الوضع في سورية، إذ أثار عرض فيلم تسجيلي عن تاريخ الحركة السلفية في مصر معركة كلامية عندما شن بعض الحضور الروسي وممثلو إسرائيل هجوماً على الإسلام في المناقشة التي أعقبت عرض الفيلم، واتهموه بأنه دين يحرّض على العنف. في المقابل وعلى رغم ان المشاركين الإسرائيليين شنوا كالعادة في كل عام هجوماً عنيفاً على العرب والمسلمين، لكن الجديد عندهم في هذه الدورة كان عرض تقرير عن «الإرهاب اليهودي» أعدته الجامعة العبرية كبحث علمي داخلي، وهو مع محافظته على محاولة تبرئة حكومة إسرائيل من تهمة الإرهاب فقد أبرز تفاصيل عن المجموعات التي تمارس الإرهاب ضد العرب أو ضد الإسرائيليين أنفسهم وغالبيتها في مناطق المستوطنات والعناصر الدينية المتشددة. مركز دولي؟ عموماً لم تحمل الدورة الثامنة للمؤتمر هذا العام جديداً لافتاً باستثناء الدعوة إلى تأسيس مركز دولي للتحليل والدراسة يكون جامعاً للخبرات وقادراً على منح توصيات مفيدة في مواجهة استحال ظاهرة الإرهاب وخصوصاً الألكتروني منه. وبمناسبة الحديث عن الإرهاب الألكتروني فإن الملاحظ أن المؤتمر ركّز الجهد الأعظم على وسائل الإعلام التقليدية، وعلى رغم تخصيص واحدة من ورشات عمله بشكل تقليدي لمناقشة الانترنت واستخداماته من جانب الإرهاب وآليات التصدي لهذه الظاهرة، فإنه بقي في هذا الاطار دون المستوى المرجو. وجاءت الوثيقة الختامية للمؤتمر لتؤكد الجزء الأعظم من النقاط التي تم الاتفاق عليها خلال النقاشات، ومن ذلك الدعوة إلى زيادة التنسيق بين الأنشطة المماثلة إقليمياً ودولياً من أجل تعزيز النقاش حول سبل مواجهة الإرهاب والتطرف إضافة إلى ما سبق عن تأسيس مركز للمتابعة والتحليل. كما دعت الوثيقة وسائل الإعلام والمسؤولين عنها في شكل مباشر إلى تلمس «درجة التأثير الكبرى للتغطيات الصحافية على الجمهور المتلقي» وضرورة «استخلاص النتائج من مئات الأمثلة بعدم الانجرار إلى بث مواد تلهب المشاعر وتفاقم المواجهات الدينية أو الطائفية أو العرقية أو كل ما يمكن أن يزيد من مشكلات الإرهاب وانتشاره».