«دعاة... أم قضاة؟»، وسم استدعيه لكن بشكل استفهامي من كتاب المستشار الإخواني حسن الهضيبي «دعاة لا قضاة»، الذي ألف في الرد على سيد قطب وكتابه «معالم في الطريق»، حينما تحول عن نمط فكر جماعة الإخوان... سؤالي في التفارق ما بين وظيفتي الدعاة والقضاة ليس في الجانب الرسمي، فلا تعارض ما بين الوظيفتين كممارستين منفصلتين... عنيت انخراط الداعية وتحوله عن وظيفته الدعوية نحو مماحكة المخالف وامتحانه وتنصيبه لنفسه حكماً على الضمائر وآراء الآخرين، وذلك ما يتنافى مع وظيفة الداعية إلى الله، الذي يفترض فيه أن يكون الطرف الأكثر تسامحاً ورحمة وحباً وليناً مع المخالف قبل الموافق، بحكم أن الداعية يعيد دور النبي في التبشير والمحبة والسمو الأخلاقي والقيمي، قال سبحانه في الداعي: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله). أخلاق الداعية انعكاس لما يدعو إليه، فداعية الدين من الطبيعي أن يعكس بأخلاقياته ومنهجه وأسلوبه الدين الذي يدعو إليه، وإذا ما خالف ذلك فهو لا يستحق أن ينتسب للدعوة الدينية وإنما حقه أن ينتسب لما يدعو إليه «ذاته/ حزبه». المراقب اليوم للدعوة والدعاة قلما يتراءى له من يستحق حمل وصف الداعية الديني، فكثير ممن احتكروا الدعوة لا يحملون شرط الداعية الحقيقي، ليس لأجل تهافت رهوط من الدعاة على الدنيا وبيعهم لدينهم بعرض من الدنيا والمنصب والوجاهة الاجتماعية، كما التنافس على الشهرة، فهذا شأن متوارث معهود عبر التاريخ «مقايضة الدين بالدنيا»، الخطورة اليوم في أن كثيراً من الدعاة ينطلقون في دعوتهم من خلال حسهم الحزبي المتخندق، ما يعني أنهم يدعون لأيديولوجياتهم الضيقة وليس إلى الله ودينه، وذلك ما حوّل فئات من الدعاة بشكل ما إلى «قضاة»، كما هم خصوم، وذلك ما لا يجوز في حق الداعية إلى الله. ما نشهده اليوم من تناطح أيديولوجي بقيادة بعض ممن يصنفون أنهم «دعاة»، وما يمارسونه من امتحان للآخر في دينه ووطنيته وشرفه وأخلاقه يدخلنا في دائرة من الدوار، هل نحن أمام دعاة أم قضاة؟! الواقع أن الممارسات التي ينتهجها كثير من الدعاة تؤكد انقلابهم لمقام القاضي، ما صنع ذهنية القاضي في وعي الداعية هو الحس الرسالي العالي والشعور المرضي «توهم المسؤولية» عن دين الله، لا شك أن هذا الحس توهم أنتجه المخيال الحزبي الضيق لا تعاليم الدين المنفتحة على الفضاءات. تحول الدعاة إلى قضاة من الطبيعي أن يكون له الأثر السيء على جناب الدين من ناحية نشر التنافر والكراهية والفرقة، وقد يصل الأمر لحدوث رفض وردات فعل كبيرة عند فئات من المجتمع نتيجة لدخول الداعية هوة المحاكمات مع المختلفين مع توجهه الأيديولوجي، وليس بسبب الغيرة الدينية الخالصة، كيف والله أمر بالحوار الحسن مع أيٍ من المختلفين بصرف النظر عن حجم اختلافهم ومسافته، وهكذا الدين الحق، لا ما يسوق للناس تحت رسم الدين والدين مما يختانون براء. نحن اليوم بحاجة ماسة للفرز ما بين الدعاة القضاة ممتطي الدين كخادم، وبين الدعاة المتسقين مع مسمى الدعوة الطاهر حتى يستبين الجيد من الرديء، وليتم فكاك الوعي الجمعي من دعاة الكراهية والفسططة، مع زخم الثورات وقعقعة مواقع التواصل الاجتماعي وهدير الآلة الإعلامية تكشفت المستندات السرية المضمرة لطيف من متوشحي أردية الدعوة واستبان ما يكنونه في بطانتهم الشعورية من إرادة تحكم في الوعي وفي مخالفي سياقهم القطيعي، وتجلى ذلك بنصبهم ذواتهم محاكم فارزة لما هو حق ولما هو باطل، ومن يستحق المحاكمة ومن لا يستحقها، ولا نجاة إلا لمعتنقي «إيماناتهم» الحزبية والمحايدين. الحصاد: النبي «عليه الصلاة والسلام» رحمة مهداة، ومن يدعو للدين رحمة مهداة، إذ هو يمارس دور النبي الرحمة، أن يتحول الداعية إلى قاضٍ على ضمائر وآراء الناس فهو يرتد على قيمة الدعوة الرحمة الخالصة، شعور الداعية أنه وصي على الوعي والدين يعني أنه يكتنف الذهنية الحزبية التي تفترض هيمنتها وخشيتها مزاحمة الآخر، ليس كل داعية يستحق وصف الداعية، فالدعوة ليست مهنة عادية يستطيعها كل من شاء الانخراط فيها، لا يستوعب كثير من الدعاة معنى قول الله (لمن شاء منكم أن يستقيم)، وإنما يستوعبون (وإن منكم من يجر إلى الجنة بالسلاسل) بطريقتهم الخاصة. * كاتب سعودي. [email protected]