منذ اندلاع شرارة الثورة في سورية والمطابع البيروتية والعربية لم تعد تقوى على اللحاق بوتيرة الكتّاب، الذين وجدوا في هذه المحنة فرصةً للتعبير عن صوتهم المخنوق منذ أربعة عقود. بعض هذه الكتب شكّل نوعاً جديداً من الأدب الذي لم يكن له تلك المساحة الكبيرة في الساحة الثقافية العربية، ويُسمّى «أدب السجون»، وبعضها الآخر أخذ منحى التأريخ لحقبة امتدّت سنوات كان فيها نظام البعث يُمثّل نظام الحكم الأوحد في سورية « الأسد». وفي هذا الإطار، صدر أخيراً كتاب جديد بعنوان سخيّ «سورية المغلوب على أمرها» للكاتب والصحافي فؤاد مطر (الدار العربية للعلوم ناشرون)، وهو عبارة عن قراءة في أحلام الأب حافظ (السوري، اللبناني، العراقي، الأميركوسوفياتي) والإبن بشار (اللبناني- الروسي- الصيني- الفلسطينوإيراني). ويضمّ الكتاب نحو 168 مقالة نُشرت في صحيفتي «الشرق الأوسط» و«اللواء» ومجلّة «التضامن» بين عامي 1996 و2012 . فيما لم تنته فصول المحنة السورية، يُقدّم الكاتب هذه المقالات التي كتبها خلال سنوات متفرقة من نظام الحكم البعثي- الأسدي، إبناً بعد أب، مع اعتقاده بإمكان توالي المفاجآت والتداعيات نتيجة التدخلات الدولية والإقليمية. وهو يكشف حجم الصعوبة التي يمكن للكاتب أن يواجهها في ظلّ ظروف كتلك التي تعيشها سورية اليوم: «ليست هنالك بالنسبة إلى الكاتب المتجرّد صعوبة مثل الكتابة عن هذه المحنة التي تعصف بالدولة ذات الرقم الصعب الثاني في معادلة الصراع مع إسرائيل ونعني بها سورية. أما صاحب الرقم الصعب الأول فإنّه العراق البعثي الصدّامي». ولا يصف الكاتب نفسه بالمتجرّد فحسب، بل يؤكّد في مقدّمة الكتاب الذي أهداه إلى «أرواح بضعة ألوف من السوريين واللبنانيين فاضت على مدى أربعة عقود نتيجة عدم التبصّر وتصحيح المسار والإغراق في التفرّد والغلوّ في التحالفات والولاءات واختصار الوطن في شخص أو حزب...»، أنه لم يكن طوال تلك الفترة ذاك «الكاتب الحاقد بل كان الناقد المتجرّد» الذي ظلّه. وهذه الروحية نستشفّها فعلاً من المقالات التي تحمل نَبرة تحليلية هادئة ومعمقة غاصت في أغوار السياسة الأسدية التي قبضت على سورية سنوات طويلة، وهذا ما لم نعهده في الكتب الصادرة خلال هذه الفترة المتأججة في تاريخ سورية والعالم العربي. «صادر حكم البعث الحاكم حريّة الآخرين. ونأى بنفسه عن التطبيق الإشتراكي العادل. أمّا الوحدة فإنه ساهم في تدميرها... ما نريد قوله إنّ البعث نجح كعقيدة وأخفق كحكم. وها هي التجربة العراقية المريرة قبل التجربة السورية الأكثر مرارة تؤكد ذلك». ولم يكتفِ الكاتب بعرض مقالاته التي غاصت في دراسة معمقة لسياسة سورية «الأسد» الممتدة على جيلين: «الأب» و»الإبن»، بل قدّم تمهيداً جاء بمثابة استعراض تاريخي للدولة التي تشهد اليوم تفكّك نظامها البعثي. وهو يستهلّ تمهيده بتصوير اللحظة الحاسمة التي شهدت لقاء الأب والإبن، أو بمعنى أصحّ ولادة فكرة تنصيب الأب (حافظ) لابنه الطبيب (بشار) خلفاً له: «يوم الأحد 15 كانون الأول (ديسمبر) 2002 حطّ الرئيس السوري بشّار الأسد رحاله في العاصمة التي سبق أن أمضى حوالى سنتين متدرباً في أحد مستشفيات طبّ العيون فيها قبل أن يقطع فترة التدريب ويعود إلى دمشق بناءً على استدعاء والده الرئيس الراحل حافظ الأسد له. وموجب العودة حادث سيارة وقع يوم الجمعة 21 كانون الثاني (يناير) عام 1994 وأودى بحياة شقيقه الرائد باسل الأسد على طريق مطار دمشق وكان متوجهاً إلى المطار للسفر إلى ألمانيا. ومنذ ذلك الحادث - الفاجعة بالنسبة إلى الرئيس حافظ الأسد وعائلته بدأت عملية تكريم واسعة النطاق لذكرى الرائد باسل وتصنيفه شهيداً، الأمر الذي يعني أنه قضى في مهمّة أو في ظروف بالغة الأهميّة أو ربما في عمليّة اغتيال كتلك التي أودت بشخصيات أمنية وقيادية في عهد شقيقه الرئيس بشّار وجرى التعتيم عليها، ومن بين هذه الإغتيالات تصفية القائد العسكري البارز في «حزب الله» اللبناني عماد مغنية. وبدأت في الوقت نفسه عمليّة تأهيل رئاسية مكثفة للطبيب بشّار الذي لن يُمارس المهنّة التي أحبّها وأمضى حوالى سنتين في لندن يتخصص فيها ويعود بعدها إلى سورية لمعالجة عيون المحتاجين إلى علاج...». من أرشيفه الكبير، اختار الكاتب مقالات توغل في الموضوع السوري الشائك منذ عهد الرئيس حافظ الأسد وحتى أيام المحنة التي يعيشها حالياً الرئيس الشاب، ليعبّر بأسلوبه التحليلي الدقيق عن كيفية تحوّل أحلام الأب في عهد ابنه إلى كوابيس لا أحد يدري ما إذا كان سيصحو منها أم أنها سترافقه مدى العمر.