محمد فاضل شاب على مشارف الأربعين من العمر، أحد أبناء قبيلة «أهل بارك الله» إحدى القبائل الصحراوية المتشبعة بالعلم والدين في المغرب، أخذ على عاتقه جمع التراث الصحراوي من مؤلفات ومخطوطات نادرة عمر البعض منها يتجاوز أربعة قرون. تربى فاضل منذ طفولته في أحضان الكتب والوثائق، فترسخت لديه قيمة المخطوط الذي هو بمثابة كنز لا يُفرّط فيه. وكان والده الراحل بارك الله محمد حريصاً بدوره على حراسة الغرفة التي تضم المخطوطات، معتبراً إياها منطقة ألغام تستدعي الحماية والحذر من شوائب تتلفها أو تغيّر ملامحها. ينطلق محمد فاضل في مشروعه الحضاري من حكمة تراثية تقول: «من لا ماضي له... لا مستقبل له». وهو يحتفظ بمكتبة عائلية متوارثة جيلاً بعد جيل، تضم بقايا مكتبات كانت خزانات علمية في المحاضر التقليدية المتعاقبة لأهل بارك الله، في منطقة تيرس الصحراوية. ولما درس تلك الكتب والمخطوطات وجد نفسه أمام مسؤولية كبيرة، وهي الحفاظ على الإرث الذي يوثق معالم تلك الحقبة المهمة. استطاع فاضل إنشاء مكتبة تعد من أعرق المكتبات الصحراوية، وفق المهتمين، كانت ولا تزال جوهر جمعيته التراثية التي أسسها قبل 6 سنوات تحت اسم «جمعية جَلوى لصيانة المخطوطات والموروث الثقافي» في مدينة الداخلة التي تبعد 1100 كيلومتر جنوبالرباط. وتملك جمعيته مكتبة تزخر ب314 مخطوطاً ووثيقة تتباين مواضيعها وقيمتها التاريخية، فمنها المصاحف والتفاسير القرآنية وكتب الحديث واللغة والنحو الصرف والعروض ودواوين شعرية عربية وحسانية، فضلاً عن كتب في التصوف والطب والفقه وعلومه من أصول وفروع وعلم الفلك، إضافةً إلى وثائق تعكس حضور المؤسسات القضائية العدلية التقليدية في هيكلة النظام المؤسساتي العدلي في الصحراء منذ قرون، وقوانين داخلية تخص التنظيم وترتيب العلاقات على مستوى القبيلة من جهة، وبينها وبين المجموعات القبلية الأخرى من جهة ثانية. ويلفت فاضل إلى أن غالبية المخطوطات هي مؤلفات لعلماء أنجبتهم الصحراء، وألفوا في كل العلوم والفنون، لعلّ أبرزهم وأكثرهم تأليفاً العلامة الشيخ محمد المامي بن البخاري (1787 – 1863) الذي كان ملقباً ب»غاليليو الصحراء»، والذي تفوق على معاصريه من أبناء الصحراء بتأليفه في علوم رياضية وفلكية وحسابية. فقد تحدث عن كروية الأرض ودورانها حول نفسها وحول الشمس، وحاول تقريب تلك الحقائق من أذهان معاصريه... لكنه جوبه بالرفض لذكره هذه الحقائق العلمية في مجتمع صحراوي بدوي لا يؤمن إلا بما تراه العين المجردة. ورسمت الجمعية أهدافاً مستقبلية من أهمها: العمل على حفظ الذاكرة العلمية لجهابذة وعلماء الصحراء ومفكّريها، إضافة إلى تصحيح التصور الخاطئ لدى البعض، والذي يختزل الموروث الثقافي الصحراوي في مظاهر الفلكلور التقليدية. والجانب الأهم من هذا الموروث، هو آثار فكرية فقهية ولغوية وتصوفية وكلامية وفلكية وجغرافية. واختار فاضل «جلوى» اسماً للجمعية نظراً إلى الحمولة التاريخية العلمية والتراثية لمنطقة جلوى التي ضمّت منذ قرون معاهد علمية ودينية كان لها دور بارز في تخريج أجيال من العلماء والمفكرين الصحراويين في الجنوب المغربي، موضحاً أن علماء الصحراء وشعراءها خلدوا ذكرى «جلوى» في دواوينهم الفصيحة والحسانية. ويرى فاضل أن فوز الجمعية أكثر من مرة ب»جائزة الحسن الثاني للمخطوطات والوثائق» التي تنظمها وزارة الثقافة المغربية سنويّاً، يعد تحفيزاً واعترافاً من طرف المسؤولين وتقديراً لقيمة هذا التراث، معلقاً على «رمزية» الجوائز، باعتبارها لا تكفي أحياناً حتى لسد مصاريف التنقل بين مدينتي الداخلةوالرباط العاصمة. وعلى رغم الإهمال الذي يصيب كنوزه التراثية بسبب ارتفاع نسبة الرطوبة في مدينة الداخلة، يتفاءل فاضل بالزيارات التي تشهدها جمعيته من مهتمّين وباحثين مغاربة وأجانب بالتراث الصحراوي، خصوصاً من إسبانيا وفرنسا. وهذا لن يدعه إلى الاستسلام والكسل، مصراً على طرق كل الأبواب من أجل حماية هذا التراث، خصوصاً أن من بين تلك المخطوطات والوثائق ما يشهد ويوثق للترابط التاريخي بين شمال المغرب وجنوبه. يطمح فاضل إلى أن إقامة مركز ترميم هدفه صيانة المخطوطات الصحراوية وحمايتها من الضياع، وبخاصة أن بعضها مغلف بالبلاستيك لكون ورقها أنهكه الزمن، إلى درجة أن بعض هذه الأوراق جرت صيانتها وترميمها بالإبرة والخيط لندرة الورق في حينها ولعدم وجود إمكانات مادية للحفاظ عليها بطرق علمية حديثة. ويتحسّر فاضل لعدم وجود جهة تبنت ترميم المخطوطات الصحراوية على رغم تكرار المراسلات إلى الجهات المسؤولة، وعلى رأسها وزارة الثقافة و «وكالة الجنوب» و «المجلس الوطني لحقوق الإنسان»، والتي غالباً ما يُتعامَل معها إما بالاعتذار أو التجاهل، داعياً الجميع إلى التعاون لصيانة هذا الجزء المخطوط من التراث المغربي وترميمه والتعريف به، لكونه في حاجة حضارية وطنياً ودولياً.