كلما فكرتُ بفلسطين وبغزة خصوصاً (ومعها كل مطارح الوجع العربي من سورية إلى ليبيا وما بينهما وقبلهما وبعدهما) سألت نفسي متى نعمل على أنسنة قضايانا وإخراجها من حيز الأسطورة إلى حيز الواقع؟ متى نضع الصورة الفولاذية جانباً ونقدم «قضية العرب المركزية»(!) إلى العالم بوصفها قضية إنسانية أولاً إلى جانب أبعادها الأخرى القومية والوطنية؟ ما هو دورنا ككتّاب وشعراء وإعلاميين؟ ألاّ يكون الهمسُ أحياناً كثيرة أشد نفاذاً من الضوضاء والزعيق؟ كيف نحرّر نصنا الفلسطيني (ما نكتبه عنها) من البلاغة والإنشاء والرطانة؟ كلما شاهدت أعداد الشهداء مجرد أرقام في مانشيتات الصحف وعناوين نشرات الأخبار ازددت حزناً وأسى، ورحت أتذكر كم أن الموت مؤلم وباعث على الأسى واللوعة. إنه أبداً ليس بتلك البساطة التي تقدمها إلينا وسائل الإعلام على اختلافها. ليس الشهداء مجرد خبر عاجل. إنهم أبناء وآباء وأمهات يتركون وراءهم أبناء وآباء وأمهات وأهلاً وأصدقاء، يخلّفون دمعاً وحسرات وذكريات استعادتها صعبة موجعة. الموت حق لكن الفراق صعب. هكذا تربينا ونشأنا. من حق الفلسطينيين مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بكل الوسائل المشروعة من الرصاصة إلى الحجر والكلمة، ومن حقهم علينا ألاّ نحولهم مجرد أعداد في قوائم الضحايا، أو موضوعاً للإنشاء المدرسي! ليس الفلسطيني متسولاً على عتبات الأمم يستجدي عطفاً وتضامناً وشفقة. الفلسطيني صاحب حق -وصاحب الحق سلطان- التضامن مع الحق هو تضامن مع الذات أولاً وأخيراً فلا يمنّن أحدٌ فلسطين بنصرتها والوقوف إلى جانبها، ولا يجعلّنها بعضنا مادة بديع وبيان. قال محمود درويش يوماً: «من حق الفلسطيني أن يرى الأحمر في الوردة أيضاً وليس فقط في الدماء». ومن حقه علينا الآن أن نذهب عميقاً خلف دمه، نفتش عن أولئك الباقين على قيد الحياة والأمل والنضال، نكتب قصصهم وحكاياتهم الإنسانية بتفاصيلها اليومية البسيطة والمعبرة في آن. يستحق الشهداء التكريم والتخليد والشعر والأنصاب، لكن أفضل تكريم لهم هو الاحتفاء بأحبتهم الذين لا يزالون على قارعة الصبر والصمود والمقاومة وما بدلوا تبديلا. ليس الفلسطيني بطلاً لكونه كائناً من حديد وفولاذ، بل أن سرّ بطولته أو أسطورته كامن في إنسانيته الحقيقية، في تعلقه بأرضه كما يتعلق كل إنسان بترابه، في عشقه أحياناً لشجرة زيتون عشق امرأة فاتنة، في إصراره على التعلم والذهاب إلى المدرسة والجامعة رغم كل الحواجز والمصاعب والمعوقات، في تمسكه بالحياة بشتى ألوانها وأشكالها رغم قسوة الاحتلال الإسرائيلي وبطشه. لنذهب إلى الفلسطيني في حياته اليومية، لنتذكره في غير أوقات الحروب والمجازر، لنقدم صورته الإنسانية إلى العالم ليدرك أن هذا الشعب ليس قوافل ملثمين تعشق الموت، ولا أمهات يسعدهن استشهاد فلذات أكبادهن، ولا فتية يستهويهم قذف الحجارة. الشعب الفلسطيني من أكثر شعوب الأرض حباً للحياة وانتصاراً لها، وإلاّ لكان استسلم منذ زمن طويل لآلة القتل الإسرائيلية المرعبة. ينتصر الفلسطيني للحياة بالموت دفاعاً عنها وننتصر له بأن نؤنسن قضيته أكثر، نخرجها من التنميط والكليشيهات والبازارات السياسية والإعلامية، نخاطب الرأي العام العالمي بما يؤثر فيه ويبدل في مواقفه التي يبنيها أحياناً كثيرة على التضليل الإسرائيلي الهائل بفعل آلة إعلامية مزورة وفتاكة، والأهم أن تظل فلسطين حاضرة دوماً في وجداننا وثقافتنا وإعلامنا واهتمامنا حتى حين يتوقف «إطلاق النار» لأن الاحتلال لم يتوقف بعد، ولأنه لا يجوز لنا ربط تقدم فلسطين إلى الصدارة بمنسوب الدم الفلسطيني.