أطل الأمين العام ل «حزب الله» على اللبنانيين بخطاب يُعتبر، وفق معايير السياسة اللبنانية ومصطلحاتها، ذا «سقف عالٍ»، ووفق معايير الإعلام اللبناني، «مملوءاً بالرسائل»، وستليه من دون شك موجة من ردود الفعل، تتبعها دعوات إلى التروي والحوار. هذا في السياسة. غير أنه بعيداً من هذا المستوى المهم، فإن لهذا الخطاب دلالات تشير إلى بعدٍ قد يكون أخطر من ارتفاع السقف أو مضمون الرسائل، وهو الانفصال الكامل بين الواقع اللبناني من جهة وبين سيد المقاومة من جهة أخرى، وهو انفصال سندفع ثمنه حتماً يوماً ما، قد يكون أقرب مما نتصوره. فالخطاب كناية عن قطع لكل الجسور التي تربط بين الكلام والواقع. اتخذ هذا القطع مع الواقع أشكالاً مختلفة، منها الانفصال عن الحاضر الملوث والهروب إلى ماض يفترض أن يكون أرقى وأطهر وأفضل. فبدأ نصرالله خطابه بالتأسف على هذا الحاضر الذي «يحكمه خداع وتزوير، فيُصبح المقاوم التاريخي متّهَماً في وطنيّته، ويصبح العميل التاريخي وطنياً يوزّع شهادات في الوطنيّة». وهو استغرب متألماً «أن تكون المنابر مفتوحة لهؤلاء» العملاء، وهذا في عام 2012 (من غير الواضح بعد ما إذا كانت لهذا العام بالذات أهمية ما). وفي لفتة جدلية، شدد على ضرورة التمسك بهذا الماضي لأنّه «هو الذي يؤسّس لمستقبلنا»، من خلال ثلاثية «الاستفادة من الماضي لنفهم الحاضر، ونبني المستقبل». وهي عبرة شبيهة بعِبَر خطابات الرئيس بشار الأسد. فالماضي واضح كما يستذكره نصرالله، فيه مقاومة وعدو في حرب مفتوحة، لا تترك مكاناً لهذا المجتمع العميل والمعقّد والقذر الذي لا يستأهل أن يكون حاضراً لذاك الماضي النبيل. وترافق الهروب إلى الماضي مع رفضٍ للخريطة السياسية اللبنانية الراهنة، واستبدالٍ للطبقة الحالية بلاعبين أكثر تمثيلاً للماضي النبيل ذاك. فقد تساءل نصرالله عن «الإنصاف والعدل» في أن يكون الممثلون الديموقراطيون للشعب اللبناني على طاولة الحوار «وأن تبقى فصائل لبنانيّة أخرى قاومت وقدّمت الشهداء خارج الطاولة»، مختاراً الحزب الشيوعي اللبناني كممثل جديد للشعب اللبناني، بعدما أمضى «حزب الله» وحلفاؤه سنوات يهمّشونه انتخابياً (وجسدياً). هكذا بات يمكن أن نتصوّر الأمين العام ل «حزب الله» على طاولة حوار يتناقش فيها مع خالد حدادة وأسامة سعد وغيرهما من الممثلين الحقيقيين (وربما ميشال سماحة ما دام المعيار الوحيد للمشاركة هو القبول بالمقاومة). فهذه طاولة ستكون أرقى من الحالية ومن تركيبتها القذرة. ذاك أن ماضياً نبيلاً كذاك، لا بد له من هذا الحاضر الأنبل. من يحول دون هذه الصورة المقاومة ويمنع تحقيق جنة المقاومة هم عملاء 14 آذار، الذين وصفهم الخطاب بعبارات متناقضة، تتراوح بين أقصى القوة وأقصى الضعف. فمن جهة، هم عملاء و «بعضهم كان يدعو لله لكي يهاجم الإسرائيلي لبنان»، وهم إقصائيون ومهيمنون، يتجرأون ويشكلون حكومات من دون «كل حلفاء سورية من مسيحيّين ودروز». ولكن من جهة أخرى، هم ضعفاء، يُقتلون و «يقبلون بالقوّة في اتفاق الدوحة أن يشكّلوا حكومة وطنيّة». أما التناقض الناتج من إجبار عملاء على المشاركة في حكومة وحدة وطنية أو رضوخ الإقصائيين لقوة المستضعفين، فلا جواب عنه إلاّ في عالم حبوب الكابتاغون الفاسدة. غير أن خطيئة 14 آذار ليست في عمالتها وهيمنتها، فهذا تتكفل به القوة. خطيئتهم الكبرى أنهم يعتقدون أنهم يفهمون الإسرائيلي أفضل من «حزب الله». فإسرائيل خيّبت آمال 14 آذار لأنها ليست «خزمتشي» عندها ولها مصالحها ومشروعها، وهو ما لم يفهمه عملاؤها التافهون. خطيئة 14 آذار الفعلية أنها تشوّش على حوار الشجعان القائم بين المقاومة وإسرائيل، وهو حوار قد ينتهي بالقتل أحياناً، غير أنه محكوم بالاحترام بين الأخصام. فقد أكد نصرالله أنه لا يهمه «إذا اعتبر أحد اللبنانيّين أنّ ليس هناك ردع» طالما نال اعتراف «العدو بهذه الحقيقة»، وهذا العدو هو الذي سلّم «بحقيقة ردع المقاومة في لبنان» بعد حرب تموز، ما لم يقتنع به بعد اللبنانيون التافهون. وهذا التفاهم طاول مسألة الطائرة من دون طيّار، التي استقبلتها قوى 14 آذار «بالبكاء واللطم». أما العدو ففهمها كونه يعرف «ماذا يعني أن تصبح لدى المقاومة معلومات صحيحة ودقيقة». ففي جنة المقاومة، هناك احترام متبادل بين الأخصام، يفهمون على بعضهم بعضا من دون الحاجة حتى إلى الكلام. فإسرائيل ل «حزب الله»، وخطيئة 14 آذار، في مخيلة نصرالله، أنها حاولت أخذها، وهذا من دون أدنى احترام مطلوب. وإذا لم تكن الصورة واضحة بعد، تمّت الاستعانة بالمنطق، والقليل منه يقول بفرضيّة «أنّ الإسرائيلي هو وراء التفجير» (يبقى السؤال أي إسرائيلي بالتحديد، فهنالك حوالى 8 ملايين منهم). وإذا كان المنطق غير كاف، فهناك الخيار «العقلاني والأخلاقي». أما إذا استمر الشعب اللبناني مصرّاً في وجه التاريخ والمنطق والعقلانية والأخلاقية على «قص ظفره»، فهناك «المرجلة»، التي هي أقرب إلى خطاب الحليف العوني مما إلى خطابات السيد، ما يمكن أن يكون أحد الآثار الجانبية ل «ورقة التفاهم». فالمقاومة تتحاور من «كرم أخلاقها» مع «حلفاء إسرائيل»، الذين «فشروا» بأن «يُقصّ الظفر». وقد انتهى الخطاب بمحاولة زج بورما في مسألة تبرير الاستراتيجية الدفاعية، إذ اعتبر أن هناك علاقة منطقية بين هذين العنوانين، كون بورما، على عكس سورية، ليست «موضوعاً خلافياً». فبعد مزارع شبعا، أضيفت بورما إلى حجج المقاومة، هذا بعد مسألة الإساءة إلى الرسول، التي لن يسكت عنها نصرالله (غير أنه يبدو أنه نسيها). من خالد حدادة إلى بورما إلى عملاء إسرائيل وصولاً إلى قص الأظافر، خطابٌ ميزته الأساسية ليست ارتفاع سقفه أو عدم ارتفاعه، بل ضياع من انتهت مدة صلاحيته. يتجلى هذا، بين أمور أخرى، في أن نعت أكثر من نصف الشعب اللبناني بالعمالة لا بد من أن يحوّل الداخل اللبناني، بعد السوري، إلى أرض جهاد ومقاومة. لقد أصبح «حزب الله» عنواناً لانتحار لبنان، وهو انتحار قد تخفف من وطأته بعض الشيء حبوب الكابتاغون، هذا إن لم تكن فاسدة هي الأخرى.