كان التعليم قبل عهد التنظيمات تعليماً دينيا حراً يبدأ في المنزل على يد مرب او شيخ، يتعلم التلميذ فيه ترتيل اجزاء من القرآن الكريم، اما مبادئ الحساب فكان يتعلمها في فيافي القرية. كما كان تعلم القراءة والكتابة هو الحد الاقصى للتعليم في القرى، اما في المدن، فكان التلاميذ يتلقون العلم في المساجد وكانت مادة التدريس الاساسية هي حفظ القرآن الكريم وتلاوته. وكثيراً ما استعملت مساجد القرى كمدارس. ولم تكن الحكومة العثمانية تنفق على المدرسين او على الابنية المدرسية، بل كانت المدارس تدين بوجودها الى تبرعات المحسنين الذين أنشأوها وحبسوا عليها الأوقاف الكافية، كما كانت مرتبات شيوخ المدارس قليلة ولم يكن هناك نظام للتفتيش، على أسلوب الفقهاء في التعليم أو مراقبته، وإنما كانت المراقبة مقصورة على الناحية المالية. وهكذا بدأ العلم يتقلص شيئاً فشيئاً حتى أصبح منزوياً في أزكان ضيقة وان لم تخل البلاد من مدارس اخرى في بيت المقدس والرملة وحلب وحمص وغزة وصيدا وحماة وعكار وطرابلس وبعلبك وغيرها.أما في عصر التنظيمات، فقد شهدت الولايات العثمانية تطوراً فكرياً وثقافياً سريعاً نسبياً اذا ما قارناه بتطور الثقافة والتعليم في العهد العثماني الأول، ففي هذا العهد أصبح للدولة العثمانية سياسة تعليمية ذات أهداف، فسنت الأنظمة اللازمة التي استهدفت تنظيم إدارة التعليم في الولايات وجاء القرن التاسع عشر فبدأت في مصر وسورية والعراق ولبنان نهضة اجتماعية أدبية كان من اهم ميزاتها إنشاء المدارس الحديثة على نظام مدارس أوروبا لتعليم العلوم الحديثة وانتشار الطباعة والصحافة وكثرة الجمعيات الأدبية والعلمية والمكتبات العامة والمتاحف وظهور فن التمثيل واشتغال المستشرقين الإفرنج بآداب اللغة العربية وبحضارة الشعوب الإسلامية وتراثها العلمي الخالد. والحق أن عهد الإصلاح المعروف بالتنظيمات أدى أيضاً إلى تعديل في نظام التعليم المدرسي والجامعي، في حين لم يعرف العهد السابق أياً من المدارس الابتدائية، خلا مدارس تعليم القرآن، وبينما لم يكن من الممكن اكتساب أيما ثقافة إلا من طريق المدارس أو الكليات الدينية، أُنشئ في سنة 1853 مكتب خاص لوضع الكتب المدرسية التي تحتاج إليها المعاهد الابتدائية. في سنة 1861 فُتحت أول مدرسة عالية لتعليم البنات وأنشئت سنة 1869 جامعة للدراسات العليا ولكنها ما لبثت أن أقفلت أبوابها بعد سنتين تحت تأثير معارضة وعاصفة من الاحتجاج ولم تكتب الحياة إلا لمدرسة الطب ومدرسة الحقوق ليس غير، في عهد السلطان عبد الحميد الثاني الذي دام ثلث قرن من الزمن، وبدأ بدستور 1876 وانتهى بإعلان الدستور السابق في تموز (يوليو) 1908، فقد سنت الحكومة عدداً من الأنظمة كان الهدف منها إكمال النقص في تنظيمات الدور الثاني وحصل توسع في إنشاء المدارس العسكرية، فبينما أُقيمت اول مدرسة رشدية في إسطنبول سنة 1847، نجد أنه اعتباراً من سنة 1875 تأسست مدارس رشدية عسكرية متفرقة تحضر للقبول في المدارس العسكرية العالية والكليات. كما تأسست في هذا العهد أيضاً المدارس الرشدية في مراكز 29 ولاية وست متصرفيات مستقلة وفي مراكز عدد كبير من الأقضية التركية كي تحضر للمدارس الإعدادية. وافتتحت أول مدرسة إعدادية في إسطنبول سنة 1875 وساعدت ضريبة المعارف التي فرضت في سنة 1884 على تأسيس مدارس ذات سبعة صفوف في مراكز الولايات ومدارس ذات خمسة صفوف في مراكز الألوية في جميع أنحاء الامبراطورية. واستطاعت الدولة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني أن تفرض سيطرتها وسيادتها اكثر من ذي قبل، كما اصبح الولاة أكثر ارتباطاً وولاء عما كانوا عليه في بداية القرن التاسع عشر. من ذلك كله يتبين أن الدولة العثمانية أيام حكم السلطان عبد الحميد الثاني عمدت إلى تأسيس المدارس في أكثر الولايات العثمانية لاستكمال النقص الذي كانت تعانيه تلك المناطق في الميدان التعليمي ولا يخفى علينا أن هذه الخطوة التي أقدمت عليها الدولة وان جاءت متأخرة فقد اعتبرت قفزة إلى الأمام لأنها أزالت من الأذهان حالة الركود العلمي التي كانت تعانيه قبل استلام السلطان عبد الحميد مقاليد الحكم. ولعل في إشارة السلطان عبد الحميد الثاني إلى أهمية العلم والثقافة في المجتمع أثناء إلقائه خطاب العرش أمام مجلس المبعوثين ما يدل على ذلك: «من واجبنا بالمقابل أن نعير انتباهنا لتثقيف عقول شعوبنا مع تأكدنا بأن الأمم الأوروبية حازت الازدهار الذي تنعم به جراء التعليم العام، فإننا نتمنى أن يتمكن أبناء رعيتنا، إلى اي طبقة انتموا، من الاستفادة من حسنات العلم، كل حسب استعداداته الخاصة، ومن اجل رؤية الازدهار يعم البلد ومن اجل إسعاد كل مواطنينا من دون تمييز، ونحن نرسخ في أذهانهم تلك الأفكار فإننا أصدرنا مرسوماً بإنشاء مدارس تصبح فيها الثقافة والتربية بالتساوي في متناول الجميع ولإنجاز هذا البرنامج في أقصر مدة ممكنة، فإننا نتمنى أن نزيد نسبة الاعتمادات المخصصة للتعليم العام. إنه من الأهمية بمكان إيجاد مدارس مختلطة في المقاطعات التي يعيش فيها مسيحيون ومسلمون معاً، فهذه الوسيلة تمكنهم من التعارف ومن تقدير بعضهم بعضاً. ومن المعلوم أيضاً كم تكون الصداقات المعقودة على مقاعد الدراسة صامدة أمام كل متاعب الحياة». إن إقامة المدارس المختلطة ليعد بحق عملاً مهماً تقدم عليه الدولة، ويعود الفضل في ذلك إلى سياسة السلطان عبد الحميد الثاني الذي عمل على فتح مدارس إعدادية تهيئ الطلاب لدخول مؤسسات علمية يتخرج منها مهندسون ومعماريون وفنيون، وعمل على تطوير المعاهد العليا وبذل جهوداً كبيرة كي يتلقى شباب السلطنة العلوم الأوروبية الحديثة. ومما جاء في نصوص ومواد النظام الأساسي الذي صدر عام 1876 والمتعلق بالتعليم ما يلي: المادة 14- إن التعليم الابتدائي يجعل إجبارياً على كل فرد من جميع أفراد العثمانيين. المادة 15 - التعليم حر، وكل عثماني مرخص له بالتدريس العمومي والخصوصي، بشرط مطابقة القانون. المادة 18- يشترط على التبعية العثمانية معرفة التركية، التي هي اللغة الرسمية، لأجل تقلد مأموريات الدولة. انعكس تأثير هذه السياسة الإصلاحية في ميدان التعليم على الولايات العثمانية، كما شجع صدور هذه التنظيمات البعثات الأجنبية على فتح المدارس، وخاصة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبهذا الصدد يذكر الكاتب الفرنسي رينيه موتارد عن التعليم في سورية، أنه خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر، أصبحت سورية مركزاً للدراسات العربية، لذلك كثرت فيها المدارس والمطابع، كما تبوأت بيروت مركز الصدارة في الحياة الفكرية.