إذا كان الزمن البطيء هو مُحرِّك التوتر، في مسرحيَّتَي الإرلندي صموئيل بيكيت (1906- 1989) القصيرتين، «وقع الخطى/1975»، و «ارتجالية أوهايو/ 1981»، فإن هذا البطء الصامت، المُتعب، تفاقم إلى حده الأقصى، حين عُرِضتْ المسرحيتان مرةً واحدة على خشبة «مدرسة الفن» في دمشق، حيث تضاعف الانتظار والصمت مسرحياً بناءً على رسوخهما في الواقع. وبالأخذ في الاعتبار أنَّ خشبة المسرح كانت من دون مخرج لها، فقد طغى الحوار على العرضين، بذاك الشكل الذي يُقرِّبهما من مبدأ القراءة المسرحية، التي تعتمد على الممثل والكاتب مسرحياً، من دون إسناد مهمات كبيرة إلى المخرج أو في أكثر الأحيان إبعاده من المنصّة. صاغ الكاتبان السوريان الشابّان وائل قدور ومضر الحجي، نصَّيْ بيكيت بناءً على رؤية دراماتورجية حديثة، متعمدَينِ في رؤيتهما ترسيخَ ضبابية بيكيت وعدم تفسيرها، إلا أنهما وقعا في فخّ المسرح ذي المساحة الصغيرة، الذي ضيّق الخناق بدوره على الفعل المسرحي، مُعزِّزاً غياب فعل الإخراج المسرحي، فقد تعاملا مع المسرحيتين على أنهما عمل واحد، ليس فيه فصْل بين الدراماتورجيا والإخراج، إذ رأيا في نصَّيْ بيكيت تضميناً للعملية الإخراجية. فنصوص بيكيت القصيرة والمحكومة بإرشادات إخراجية صارمة، تُفسِح في المجال أمام احتمالات غير متناهية في تناولها الإخراجيّ، وعلى رغم ذلك ضيّق الكاتبان الأنفاس على الشخصيات مع عدم إسنادهما دوراً في هذا العمل إلى مخرج مسرحيّ منفصل عن تجربتهما، وما عدا الثيمة المشتركة، وهي البُطء، فالحوار يتكثّف في العرضَينِ على لسان ممثل واحد. يتحرّك الحدث في «ارتجالية أوهايو/ 1981» دراماتورجيا قدور، مع كلمات الرجل القارئ «ل» (محمد زرزور)، بينما يستمع «ي» (محمد ديبو) إلى السرد المتواصل، مكتفياً بالتأثُّر، وبجحوظ عينيه من هول الغرابة والعزلة التي تعيشها الشخصيتان، لتصبحا شخصاً واحداً، ترتجّ صورته المسرحية مراراً، فيتمكن الجمهور من الفصل بينه وبين وهمه ثوانيَ معدودةً، (يرتدي الرجلان معطفين أسودين طويلين، وكلاهما بلحية طويلة، وقليل من الشعر على الرأس). اختار قدّور مسرحاً بسيطاً للمسرحية القصيرة (15 دقيقة)، ولم يُوضَع أي شيء على الخشبة سوى طاولة بيضاء وكرسيين صغيرين، وفي الخلفية صورة فوتوغرافية (أبيض/أسود) مبهمة، وممتدة على أرضية الخشبة، يتخلّلها في الأعلى رسمٌ لنافذة، فقد جهّز (زكريا الطيان) السينوغرافيا بطريقة قاتمة، أحالت الفضاء إلى قبو أو زنزانة، بينما زاد نقْرُ الرجل المستمع على الطاولة من عزلة الشخصيتين، وانعزالهما النفسيّ والبيولوجي، خصوصاً مع شحوب القِصّة التي يقرأها «ل»، والتي تحكي هواجس رجُل هارب إلى المجهول، فيتفاعل الرجل المستمع مع القصة كأنها قصته، هو طبعاً يستمع إلى ذاته، لهذا يتدخّل طالباً إعادة بعض الجُمل، واضعاً يده على رأسه، بينما يتحرَّك جلده ببطء تحتها، هل يتلمّس نهايته كجسد؟ النهاية القريبة جداً. صمت وفراغ يُركِّز قدّور في نصّه (استند في صياغته على النسخة التي كتبها بيكيت بالإنكليزية، وأُخرى ترجمتها ماري إلياس عن الفرنسية إلى العربية) على إتاحة المجال أمام الصمت، وترسيخ الفتور المهيمن على أحاسيس الرجلين، وعدم إمساكهما أيَّ موجودات مادية، فالرجل «ل» فقط يُقلِّب كتاباً، كما لو كان كتاب مذكراته الشخصية، يخفض رأسه، مُنكبّاً على الصفحات هامساً: «القليل بقي ليُقال... في محاولته الأخيرة». لا يخلو السرد من مُخيِّلة سوريالية، وكما لا تُكشَف هوية المكان الذي تجلس فيه الشخصيتان، فهي لا تُعلَن أيضاً، في القصة الوحيدة الدالة على ما يجري: «مستغرقين في هاوية وعي، لا أحد يعرف ما هي هاوية اللاوعي». يتابع الرجلان جلوسهما كأنهما حجرٌ لا ينطق، ويتم التعتيم الكُلّي على المسرح من دون معرفة أي نتيجة. لقد رُسِم مسرح العرضَين على شكل حرف (L) باللغة الإنكليزية، لذا ما إن توقّف العرض الأول (الارتجالية)، حتى طُلِب من المشاهدين تغيير وضعية الكراسي، تحضيراً للعرض الثاني «وقع الخطى/1975» دراماتورجيا الحجي، ليكونوا مقابل جدارٍ قديم متآكل، تُخرِجُ ألوانُه الباهتة خيبةَ انتمائه إلى مدينة عصرية، يحدّ أسفل الجدار رصيف ضيّق تمشي عليه رنا كرم (ماي)، بينما تتوارى أمُّها (فاتنة ليلى) خلف الكواليس، لتكون صوت المرأة الخفي (الأم). يُوهِم الحوارُ الذي يجري قبل الإظلام الأول بأن الفتاة لا تُحدِّث سوى طيف أمها غير الموجودة، وكأنها تبحث في الفراغ عن كائن يُسلّي وحشتها، والسؤال الذي تطرحه الفتاة على الأم، هو ما يجعل سيطرةَ الشخصية على الخشبة عاليةً: «أكنت نائمة؟»، يأتي الجواب مع صوت أجشّ، كأنه يخرج من قبر: «كنت نائمةً نوماً عميقاً. سمعتك وأنا مستغرقة في نومي». تخوض الشخصيتان حرباً كلامية حول صراع الوجود، فهما معزولتان أيضاً بسبب مرض الأم، والفارق العمريّ الكبير بينهما، وانغراس الفتاة في حلم يقظة كئيب، فها هي لا تذكر كم عمرها، أو أنها لا تريد سوى طرح الأسئلة وحسب على الأم: (هل أعطيك حقنة؟ أضمّد بثورك؟ أرطّب شفتيك البائستين؟ أصلّي معك؟)... يُفصَل السؤال عن الآخر بزمن من الصمت، وهنا يمكن التحقُّق من أن الأسئلة هي نوع من الإثبات للذات أنّ الجسد لا يزال على قيد الحياة، (ماي) ما هي إلا طيف يتحرّك، يجرح الحائط بأظافره، ويعدّ من الواحدة حتى الثامنة، وقْع خطاه على الأرض، وكأنّ مهمة العدّ والنقر ترسيخ بقائه الإنساني. بعد حوار طفيف، يشرح الظرفَ النفسي للابنة والأم، يأتي دور السرد على لسان الفتاة، بينما تقطعه الأم كأنها العالم الداخلي للفتاة الشابة، تقطعه بالأسئلة وبإكمال المعنى، وك «ارتجالية أوهايو» يميل الحدث المقصوص إلى كونه مونولوجاً شخصياً. استمرَّ العرض ثلاثين دقيقةً، تخلَّلها زمن بطيء، مهدور في التمهّل مع مشية فتاة (تروح وتجيء قبل أن تختفي كما جاءت)، لا تُحدِث أي صوت سوى انكسارها وألمِها. بدت اللحظات النهائية في «وقع الخطى» تطويليةً بالنسبة إلى فحوى العرض المسرحي، في تقطيع الحوار بأزمنة فاصلة، توحي بالبطء، المُسبَغ عليه صفة العدم، فالحدث لا يُقدِّم جديداً عن ماضي الشخصيتين، ولا يحلّ أزمة الحاضر المأزوم، بل هو بوح، تتلوه استغاثة، ولا معنى لما تقوله الشخصيات، بل لما يتواتر عن كلامها من اضطراب وتشنُّج، لا يُرضي غالبية الجمهور، بل ينقل إليه توتُّراً يلاصق أيَّ توتُّر لحْظيٍّ يعيشه، وقد يقوده إلى الخروج من لعبة مسرحية قصيرة الزمن، لكنها مُربِكة جداً.