في الانتخابات الرئاسية، انجلت صورة أميركا على وجه مركب ومتشعب: فنازعها إلى «التقدم» رسخ. وبانت أميركا «ملونة» لا تقصر السلطة على البيض، لكنها بدت أكثر فقراً من قبل، وبدا أن الاستقطاب السياسي فيها مستفحل. فالبلد الذي انتخب باراك أوباما لولاية ثانية، ومنحه 50 في المئة من الأصوات على المستوى الوطني، منقسم إلى قطبين، التواصل بينهما ضعيف. ويبدو أن النساء والشباب والأقليات والفقراء وسكان المدن وغير المتدينين هم من اقترعوا لأوباما. ويعود الفضل في انتخابه إلى الأميركيين اللاتينيين الذين تتعاظم نسبتهم من المقترعين، فهي فاقت عشرة في المئة، واقتصرت على 9 في المئة في 2008. واقترع 71 في المئة من هؤلاء لأوباما، ونسبة الآسيويين إلى المقترعين هي 3 في المئة، ورجح انحيازهم إلى المرشح الديموقراطي في هذه الانتخابات. وأول «رئيس أسود» للولايات المتحدة هو على رأس بلد تفاقم فيه الشرخ العرقي و «اللوني» (لون البشرة)، ف59 في المئة من البيض اقترعوا للمرشح الجمهوري ميت رومني. والنسبة هذه ارتفعت 4 نقاط في الانتخابات الأخيرة قياساً إلى النقاط التي حازها جون ماكين في 2008، فشطر لا يستهان به من أميركا البيضاء لا يرى أن أول رئيس خلاسي في تاريخها يمثلها. وبروز حزب الشاي («تي بارتي») هو مرآة شعورها بالمرارة والامتعاض إزاء انحسار نفوذها، ف «أميركا التقليدية أفلت»، كما لاحظ بيل أوريلي المذيع في «فوكس نيوز عشية صدور نتائج الانتخابات. وخلص أوريلي إلى أن نفوذ الطبقة النافذة والمهيمنة («استابليشمنت») البيضاء ينحسر، وأنها صارت تمثل الأقلية. وعلى رغم مواجهتهم صعوبات كبيرة في الأعوام الاخيرة، وارتفاع البطالة في أوساطهم إلى 14 في المئة (ضعفي نسبتها في أوساط البيض)، لم يخرج ذوو الأصول الافريقية على وفائهم للرئيس الخلاسي: واقترع 93 في المئة منهم لأوباما. وفي وقت يدعو أوباما الى توحيد صفوف الأميركيين، يتفاقم الانقسام الحزبي ويتصلب اصطفافه. فنسبة إقبال الديموقراطيين على الاقتراع لمرشحهم ارتفعت، شأن إقبال الجمهوريين على التصويت لرومني. ومال الناخبون المستقلون إلى المرشح الجمهوري الذي حاز 12 نقطة من أصواتهم أكثر من سلفه ماكين. والشرخ بين الفقراء والأثرياء على حاله من الرسوخ. فالفقر مستشر في صفوف الملونين من السود والأميركيين المتحدرين من أميركا للاتينية. واقترع لأوباما 63 في المئة من أصحاب العائدات الأدنى من 30 ألف دولار سنوياً، ومال الأكثر ثراء، وعائداتهم تفوق 100 ألف دولار سنوياً، الى رومني. واقترع له 54 في المئة منهم، إثر التزامه عدم زيادة الضرائب على عائداتهم. الانتخابات أبرزت انقسام أميركا إلى اثنتين: أميركا المدن وأميركا الأرياف. وبلغت نسبة اقتراع المدن الكبيرة للديموقراطيين 69 في المئة، ونسبة اقتراع المدن الصغيرة للجمهوريين 56 في المئة. والتباين بين أميركا المدن والبلدات ناتئ في مجسم الخريطة الانتخابية: فشطر راجح من أميركا أحمر اللون، وهو لون الجمهوريين، وإلى جانبه شرائط زرقاء (لون الديموقراطيين) على الساحل الشرقي والغربي، حيث ترتفع كثافة الناخبين الديموقراطيين. والانقسام بين الأجيال بارز، شأن الانقسام بين النساء والرجال، ف60 في المئة من الشريحة العمرية 18- 29 اقترعت لأوباما، و56 في المئة ممن هم فوق سن ال65 عاماً انتخبوا رومني. وبلغت نسبة اقتراع النساء لأوباما 55 في المئة، ونسبة اقتراع الرجال لرومني 52 في المئة. وأميركا المنقسمة انتخبت رئيساً لم يمنحها الأمل بمستقبل أفضل، ف52 في المئة من الناخبين يرون أن بلادهم تسير «في المنحى الخطأ»، أي أنها ليست على ما يرام، فأميركا أولت ثقتها لقبطان من غير أن تعرف على أي ضفة سترسو سفينتها، وإلى أي وجهة سيوجه دفتها. * مراسلة، عن «ليبيراسيون» الفرنسية، 8/11/2012، إعداد منال نحاس